أحياناً يعجز اللسان عن الكلام، وتعجز الأيادي عن الكتابة، يتناسى العقل كل المفردات والمعاني والتعبيرات التي يمكن أن تصف حالتك عندما تريد أن تبوح عما يدور داخلك من ألم، قلب يعتصر، ضلوع تتهشم، ودماء تغلي من شدة فوران الاحتراق والنيران التي تسري داخل جسدك، هذا الإحساس الصعب وصفه مهما كنت تملك من الحروف، هذه المشاعر تسري في الوريد سريان الدم، ويحدث ما هو أشد من القتل، وأفظع من الموت، يحدث أنك تتألم ويفوح من عينيك دخان ودموع كتلك التي تجعلها النيران ولا تنطفئ أبدا.
مولانا حسن،، عرفته في منتصف عام ٢٠١٨، وجمعتنا الصدفة، ليكون أول لقاء بيننا في مهمة عمل انتهت بنا في الذهاب إلى منزلي في بلدتي، ولم أسلم منذ ذلك الوقت من خفة ظله ودعاباته، حتى والدتي التي رأته مرة واحدة، جرى وسكن قلبها كما سكن قلوبنا، ثم كان مولانا حسن كما ينطق لساني وأحب أن أقول له، وكانت صداقتنا التي لم يكن مثيلها.
خفة ظله، وروحه الجميلة أخفت في أعماقه الكثير والكثير من طيبة قلبه، من تحمل مشقة الرحلة التي ترك بلدته من أجله، ولكنه لم يترك أهله قط.
مولانا حسن،، لم أعرفه سوى مخلصا لعمله ولأحبائه، رقيق القلب أطيب من ذلك العصفور الذي يقف على الشجرة ويرتل تغريدات في وقت الفجر تهون على القلب الحياة، وتزرع فينا الفرح، وتضيء طريقنا بالأمل رغم أي شئ وكل شىء.
ولأنه مولانا الطيب، كان أول من بادر بصنع صداقتنا التي تجاوزت حد الأخوة والزمالة، وكان أول اعتراف من قلبه الطيب، وكانت أول بادرة، “يا عيييد سيبك من الإيجار دا وتعالي اقعد في الشقة معايا.. حرام تدفع إيجار يا عم”.. كان الأول في كل شىء، الأول في عمله دؤوبا “شاطر”، مخلصا له، الأول في النقاء والصفاء والأخلاق وحب الأخرين، الأول في دعم الجميع وتشجعيهم، الأول في فتح مجالات الرزق لأصدقائه، الأول في رسم البسمة على وجوههم، الأول في صنع البهجة والتهوين من شقاء الدنيا.
مولانا حسن،، الذي نصحني بألا اترك المنزل كل صباح وأذهب إلا بصلاة الصبح: اوعي يا عيد لو قصرت في دنيتك كلها تقصر في صلاة الصبح.. دي البركة يا عيييد، يا عييد مخنوق ليه، طيب ما تيجي نصلي ركعتين ونقرأ صفحتين ف المصحف”.
“عاوز أفرح بيك يا عيد”.. تلك الكلمات التي كان يرددها دائما وكل يوم، كأنها مقرر يومي، “عاوز افرح بيك يا أخي بقا”، حتى بعد زواجه زاد على إلحاحه دعوته: “ربنا يرزقك ببنت حلال تصونك يا عيد، وتقدر على الرحلة بتاعتنا، رحلتنا متعبة، يا رب يرزقك بحد زي اللي عندي يا عييد”، لم تكن صدفة أبدا أن يرزقني الله ما يتمناه مولانا حسن، وأتزوج ممن حتى تحمل اسم زوجته، إنه الدعاء المستجاب لمولانا الذي وإن شئت احتسبه عند الله ولي من أولياء الله.
مولانا حسن،، عشت معه كتفا بكتف، عمل ولعب ومسكن ومأكل ومشرب، مولانا حسن الذي تشاجر معي لأني لم استطع أن أحصل على إجازة يوم نقل أجهزة عُرسه، وهاتفني غاضبًا: “سيب الشغل ياعم وتعالى”، هرولت إليه تاركا عملي، ليقابلني بغضب: “شغل إيه.. احنا مالناش غير بعض هنا، ولو مش هنقف مع بعض ونشيل بعض مين هيشيلنا”، ونهاية اليوم جاء ليرضيني، ظن أني غاضبا منه، ولم يكن ذلك صحيحا، لكن كلماته كانت جميلة، قال: “يا عيد احنا مالناش غير بعض هنا،، واوعى تفكر إن في حد يخلينا نستغنى عن بعض، أنا اللي هشيلك لو تعبت وانت اللي هتشيلني لو تعبت أوحصلي حاجة.. فهمت!”.
كان لا يحلو الفطار من على عربة “أبو عبده”، كل يوم إلا بدونه، ولا تحلو مباريات البلايستيشن في منزل مهدي إلا بحضوره، ولا يحلو الهزار مع عيسى إلا في وجوده وبلسانه، ولا يحلو جمع يوم الجمعة مع فوزي إلا به.
استندت عليه، اقتسمنا اللقمة سويا واقتسمنا شقانا سويا، مالنا وطعامنا ودعابنا، فرحنا وألمنا سويا، لم استطع أن أبوح بحزني على مرض ابني إلى بين يديه، ولم تكن هناك سوى يده تتطيب خاطري وتهون وتزيح عني الالم وتنفض عني الحزن والضيق.
رغم أنه كان يدعي أني من أهون عليه، لكن العكس كان هو الصحيح: “يا عيد انت فين- في المكتب تحت يا حسن .. طيب انا نازل اسلم عليك واشوفك اقعد معاك شوية.
شايل الهم لياده يا عيد علطول كدا فكها يا صاحبي هتهون والله الدنيا دي احنا بنشقا فيها بس مش هنشيب الهم كمان …
يالا يا عيد انا مخنوق بينا نطلع كورنيش شوية وبعدها نطلع ع الحسين. يالا بينا يا حسن”.
رحل مولانا حسن وكان آخر كلامه لي قبل وفاته بساعات: “عامل إيه يا أبو يحيي.. الدنيا بتلهي يا عيد بس اللي في القلب في القلب والله”.
رحل مولانا حسن أبيض القلب، ونقي الطبع، وحلو الروح، رحل مولانا دون إنذار، سلب روحنا من بين أضلعنا وجرى، رحل وتركنا هكذا، لا نملك سوى أن ننتظر لقائه في نعيم الجنة التي كان يناديها بسبحة جده التي لازمته أينما كان وفي أي وقت.
رحم الله مولانا حسن، وأدعه في صحبة النبيين والصديقين والشهداء، رحم الله مولانا الناصح الأمين، وألهمنا الصبر والسلوان على فراقه.