في أكتوبر 2018، ضجت وسائل الإعلام العالمية والعربية بتصريحات دونالد ترامب، والتي قال فيها إن المملكة العربية السعودية تمتلك تريليونات الدولارات وكذلك النفط، وتعيش في حماية أمريكية لا تدفع مقابل لها، لكن حان الوقت أن تدفع مقابل حمايتها، فبدون الولايات المتحدة الله أعلم ماذا سيحدث للمملكة؟.
هذه التصريحات أشعلت نار الغضب في قلب ولي العهد محمد بن سلمان، لكن سرعان ما انطفأت ألسنة اللهيب، باتصال جمع بينه وبين “ترامب”، أكد فيه دونالد حبه الشديد للمملكة وزاد من الشعر بيتا قائلا: “ربما لن تكون قادرا على الاحتفاظ بطائراتك، لأن السعودية ستتعرض للهجوم، لكن معنا أنتم في أمان تام، لكننا لا نحصل في المقابل على ما يجب أن نحصل عليه”، بالمعنى العربي تريد أمريكا “الجزية” مقابل الحماية.
ومن ثم بدأت العلاقات “السعودية – الأمريكية” رحلة نموها بفكر ترامب الاقتصادي – فالجميع يعلم أنه رجل أعمال في المقام الأول – استثمارات متبادلة، وأموال تتدفق بأشكال مختلفة إلى الجانبين، ومن أكبر الاستثمارات السعودية في الولايات المتحدة الأمريكية هو مشروع مصفاة “بورت آرثر” التي تعتبر “جوهرة التاج” بالنسبة لصناعة النفط الأمريكية كون طاقتها الاستيعابية تصل إلى 600 ألف برميل يوميا، هي الأكبر في الولايات المتحدة، وتسمح للسعودية بالحصول على موقع استراتيجي يسمح لها بنقل نفطها الخام إليها وتصفيته ومن ثم بيعه في أسواق أمريكا الشمالية.
ليس هذا فحسب، فحجم التجارة بين البلدين وصل إلى 50 مليار دولار سنويا حسب إحصاءات عام 2022م، كما أن الاستثمارات السعودية القائمة في الاسواق الامريكية للـ PIF تصل الى اكثر من 20 مليار دولار، وكذلك أيضا ارتفعت نسبة تداول المواطنين السعوديين بالسوق الأمريكي بشكل قياسي ووصلت إلى 90 مليار ريال في الربع الثالث من 2024.
هناك آراء ترى أنه مجرد تعاون بين دولتين لا غبار فيه، يتبادل فيه الطرفان مصالح مشتركة، لا مانع إذًا، لكن ثمة أمر ما بداخلي يؤكد أن خُبثًا وراء هذا، فأي صفقة هذا يطلبها ترامب بدعوى الاستثمار السعودي في الولايات المتحدة بقيمة 500 مليار دولار، فيدفع بن سلمان خلال ساعات قليلة بـ 600 مليار دولار، فيتجرأ ترامب بطلب تريليون دولار، لو كان قمارًا ما كان بهذه السهولة أبدًا.
هل كانت كلمات ترامب “حقيقة” بأن السعودية تعيش في رغد من أمن وأمان ونعيم بسبب حصانة الولايات المتحدة لها؟، وهل تلعب المملكة دور الحرب بالوكالة لصالح الولايات والكيان الصهيوني بدعم أمريكي ضد صنعاء؟، هل حان مثلا دور المملكة العربية السعودية أن ترد الجميل وتعوض خسارة الولايات المتحدة وانهيارها الاقتصادي نتيجة دعمها لإسرائيل في الحرب على غزة وما طالها مؤخرا من حرائق وكوارث؟ أم ماذا يا سادة؟.
ماذا يعني ضخ استثمارات سعودية بقيمة 600 مليار دولار في أمريكا؟، هل يعزز ذلك من نفوذ المملكة ويفتح لها مجال أكبر للاستحواذ على استثمارات داخل أمريكا نفسها ومع زيادة الاستثمار إلى تريليون دولار تقوى الشراكة ويصير للسعودية تأثير أكبر مما يخدم تنويع مصادر الدخل وتعزيز موقعها الاقتصادي عالمياً؟.
لا اعتقد أن ترامب سهلا لهذا الدرجة، لكن في الغالب الخطر قادم، فهذا الإتفاق السعودي الأمريكي يعني تشديد القبضة الأمنية الأمريكية ليس على السعودية وحدها، وإنما على الشرق الأوسط، فالمؤكد أن أمريكا تسعى لهذا الإتفاق وإبرامه لأهداف سياسية واقتصادية وعسكرية وأمنية في المنطقة، والسعودية تظن نفسها أنه بهذا الإتفاق يضمن لها الدفاع عنها من أي تهديد خارجي.. ولكن هل يضمن لها التهديد الاسرائيلي على المدى البعيد؟.
والأكثر تأكيدا أن السعودية ليست بحاجة إلى أمريكا، إنما العكس تماما، فأمريكا التي بحاجة إليها وبشدة ولا تظهر ذلك لأن السعودية هي من بادرت بذلك، وجاءت هذه الفرصة على طبق من ذهب لأمريكا التي تظهر نفسها أنها حريصة في ذلك.
السعودية سواء بحسن نية أو سوء نية تقود نفسها والمنطقة إلى المصيدة الصهيونية الأمريكية، ظنا منها أنها تحتمي من التهديد الخارجي إلا أنها ستقع في حضن العدو الحقيقي، ولا شئ يجبر السعودية على وثيقة التزاوج الأبدية، فالخيارات أمامها كثيرة ولابد من التنويع في هذه الاتفاقيات وألا تكون مقيدة لجهة واحدة تتحكم بحبالها حتى تنتفض المنطقة وينتفض الوطن العربي من قيود السلاسل المحكمة، ويعيش حرا سيد قرار نفسه.