“سوق الحلاوة جبر واتبغددوا الوحشين” عبارة تنتمي للشعر الشعبي، لكنها في جوهرها بيان سياسي فلسفي فاضح لزمن اختلت فيه المعايير، وارتفعت فيه قيمة المظهر على حساب الجوهر، والدهاء على حساب الضمير، والتزييف على حساب الصدق. ”جبر” هنا لا تعني فقط التوسع، بل الهيمنة المفروضة. فالسوق لم يعُد ساحة للتبادل الحرّ، بل صار منصة “لإعادة توزيع المكانة”، ليس على أساس الكفاءة أو الاستحقاق، بل على أساس “القدرة على التزيين”، “القدرة على التسويق”، “القدرة على الصراخ بصوت أعلى من الحقيقة”.
في هذا السوق الجديد، لم تعد الحلاوة تعني الطيبة أو النقاء أو المبادئ. ”الحلاوة” أصبحت سلعة بصرية، تُصنع وتُجمّل وتُباع، سواء كانت على هيئة وجه مُصفّى، أو صفحة تلمع على السوشيال، أو خطاب سياسي مموّه يغري العقول الخاملة. الوحشين – كما تقول الأغنية – “اتبغددوا”، أي تقلّدوا المناصب، وارتدوا زيّ الأسياد. أما “الحلوين”، أي أصحاب النية الصافية، والقول الحق، والموقف الشريف، فمصيرهم البكاء… أو الصمت.
في زمن “سوق الحلاوة الجابر”، صارت الرداءة نظامًا سياسيًا، تُنتج ثقافة هجينة، تُقصي الشرفاء لأنهم لا يجيدون الرقص على حبال التناقض. يتصدّر المشهد من يُتقن فن التلوّن، ويُقصى من يثبت على موقف. السلطة في هذا السوق لا تُبنى على الفكرة، بل على الصورة. والقيمة لا تُقاس بالجوهر، بل بالقدرة على “التمرير” و”التمثيل”، وهو زمن سياسي جديد، فيه النجاح مرتبط بمدى قابليتك للبيع، لا بمدى نفعك الحقيقي للمجتمع. لكن في الفلسفة، كما في التاريخ، السوق لا يبقى جابرًا إلى الأبد. ففي لحظة ما، تنقلب الطاولة.
تعود القيم إلى الواجهة، لكن بعد أن تكون قد دفعت الثمن غاليًا: اغتراب الحالمين، وخرس الصادقين، وتشويه الرموز. ”سوق الحلاوة جبر”… صرخة ليست فقط من وجدان شعبي مجروح، بل أيضًا تحذير فلسفي من مجتمعات تُعلي من القشرة وتنسى اللب، من أنظمة تكرّم الانتهازيين وتحاصر المصلحين، من أزمنة تصنع “نجوماً” بلا ضوء، و”زعماء” بلا بوصلة، و”حلاوة” بلا طعم. السؤال إذًا ليس: لماذا جبر السوق؟ بل: متى نكسر جَبْرَه؟ ومتى نعيد بناء “سوق” تحكمه القيمة لا القشرة، الفكرة لا الصوت، الجوهر لا الغلاف؟.