منشور (بوست ) كتبه الصديق العزيز الإعلامي والمحامي خالد أبو بكر كان هو المحفز لهذا المقال كان المنشور يتحدث حول ماوصلت اليه امريكا مقارنة بمن سبقوها في قيادة النظام العالمي واضاف مازحاً ( أكيد الهامبورجر) في إسقاط على منتجها الحضاري بشكل عام .. تفاعلت مع المنشور مستنبطا بعض من استخلاصات الأستاذ محمد حسنين هيكل في مؤلفه الشهير ( الإمبراطورية الأمريكية ) .
ولكن .. لم يتوقف الأمر استمرت الغواية للكتابة .. ولا تستغرب لأن الكتابة فعل من افعال الحب إذا لم تجد ما يغريك لتذهب اليها فلن يتحرك قلمك بنقطة حبر واحدة.. وكان بالفعل هوى النفس يأخذني إلى العودة من جديد لقراءة فكر الأستاذ هيكل ومنهجه التحليلي في هذا الكتاب تحديدا.
وإذا كانت العودة تأتي في ظرف إقليمي دقيق فإن عقدين من الزمن مروا أمامي وانا أتفاعل مع قراءة الكتاب الكترونياً وهي القراءة التي لا اشتهيها لأن للورق متعة اخرى ولكن .. للظروف أحكام فالقراءة الإلكترونية لاتشبع حالها كحال وصفات الحمية الغذائية بلا طعم ولاتسد جوعا .. وهي العودة الرابعة المرة الأولى التي وضعت هذا الكتاب بين يدي كانت بعد غزو العراق وهي مرحلة الطفولة الصحفية بالنسبة لي متعة التعرف على العالم وبداية انطلاق جيلي في المهنة والعودة الثانية كانت قبل عملي من واشنطن مع جريدة الوطن اما المرة الثالثة فكانت خلال عزلة صيفية منذ ١٠ سنوات بالتمام والكمال وهي عزلة لم تكتمل كنت قد فرضتها على نفسي في الساحل الشمالي بعد استقالتي من رئاسة تحرير جريدة حزبية وانتقالي للعمل في مؤسسة دي ميديا احدى شركات الشركة المتحدة فيما بعد .
في ( الإمبراطورية الأمريكية) لم يكن هيكل مؤرخا يسجل بقدر كونه مفكرا يرصد لحظة تاريخية نادرة .. لحظة تحول الولايات المتحدة من دولة نشأت على أسس ديمقراطية إلى إمبراطورية تمارس نفوذا يتجاوز حدودها الجغرافية.
رأى أن أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية تبنت مشروعا واضحا للهيمنة ليس فقط عبر السلاح بل من خلال الاقتصاد والثقافة والمعلومات وكل أدوات القوة التقليدية وغير التقليدية.
وكيف أن واشنطن لم تكتف بكونها القوة الكبرى بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وتعاملت مع العالم باعتباره ساحة نفوذ يجب السيطرة عليها..وقد تبنت نخبتها الحاكمة فكرة ( القرن الأمريكي) أي أن القرن العشرين يجب أن يكون قرن الهيمنة الأمريكية المطلقة.
ومن هنا جاءت السياسات المتعددة الأوجه سواء التدخلات العسكرية او التوسع الاقتصادي اوالتغلغل الإعلامي والثقافي هذا التغلغل الذي لخصه العبقري السيناريست الدكتور مدحت العدل في رسالة فيلم يراه البعض بسيط رغم كونه حمل ملخص العالم الأمريكي بعد نهاية الحرب الباردة وهو فيلم ( امريكا شيكا بيكا ).
في العودة الرابعة للكتاب انتبهت الى واحدة من أخطر أدوات هذه الإمبراطورية كما يراها هيكل وهي وكالة الاستخبارات المركزية (CIA).
والنمط الدولي الذي ابتدعته وكيف لعبت دورا محوريا في قلب أنظمة حكم ودعم أخرى .. توجيه مسارات دول بأكملها بما يخدم المصالح الأمريكية.. احياناً يكون التوجيه مباشر وفي اغلب الأحيان غير مباشر من خلال السيطرة على الذهن العام للأمم وهو الدور الذي تلعبه الثقافة الأمريكية في اختراق المجتمعات الأخرى.. بدءا من السينما والإعلام مرورا بالجامعات ونضيف نحن اليهم اليوم الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي وصولا الي زمن الذكاء الاصطناعي الذي لم يحضره هيكل .
توقف هيكل عند العلاقة الخاصة بين أمريكا وإسرائيل ويعتبر هذة العلاقة هي المدخل لفهم كثير من السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط.. ويذهب أبعد من ذلك حين يربط بين هذه العلاقة والتحكم في موارد الطاقة في المنطقة وعلى رأسها النفط حيث ظلت واشنطن ترى أن السيطرة على الطاقة جزء اصيل من هيمنتها العالمية.
أما على الصعيد الاقتصادي فيكشف هيكل عن استخدام أمريكا لمؤسسات مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي كأذرع ضغط لفرض نمط اقتصادي معين يخدم مصالحها ويضعف استقلالية الدول النامية لكن كل هذا لم يكن بلا ثمن.. فكل إمبراطورية تتوسع أكثر مما تحتمل تبدأ في مواجهة التحديات من داخلها وتتعرض لمقاومات من خارجها وهو ماحدث من التورط في الحروب ومعها تصاعد كراهية الشعوب ما اسفر عن تراجع القوة الأخلاقية وهو العطب الذي اصاب كل الإمبراطوريات التي سبقت الولايات المتحدة في الهيمنة الدولية.. لكن النخب الأمريكية استخلصت الدرس في لعبة الأمم وهي حتمية تفادي لحظة الخمول ومن ثم يجب أن يكون هناك على الدوام عدو استراتيجي يستنهض أدوات القوة الكامنة لمواجهته والتغلب عليه وبذلك تستمر الإمبراطورية الأمريكية حتى وان طاف حولها مؤشرات قد تقود إلى الانهيار كما حدث مع الإمبراطوريات السابقة.
اختلفت كثيرا ومازلت اختلف مع بعض اطروحات الاستاذ هيكل بعض هذة الاختلافات سجلتها مقالات رأي وحوارات تليفزيونية في حياة الاستاذ الكبير لكن بعد رحيل هذا الرجل ادركت أننا فقدنا الكثير فقدنا هيبة صحفية لن تتكرر .. دفن ومعه كبرياء خاص لهذة المهنة صنعه هيكل من خلال تجربته الذي نقل بها الجورنالجي من بلاط صاحبة الجلالة إلى صياغة الفكر والاستراتيجية في دوائر الحكم والقرار .
هذا الكتب تحديدا يختلف ويتفرد بين كتب الأستاذ هيكل وازعم أنني قرأت معظمها .. قراءته فيه ليست قراءة مسكونة بالإعجاب أو بالكراهية كحاله عندما يكتب عن الرئيس عبد الناصر أو الرئيس السادات .. لكنه رحلة باحث ومفكر وصاحب رأي وتجربة سياسية غنية قرر أن يخوض محاولة موضوعية لفهم ظاهرة تاريخية كبرى.. وفي نهاية كتابه لا يقدم نبوءة بسقوط وشيك .. لكنه اطلق تحذيرا مدويا بأن التاريخ لا يرحم الإمبراطوريات حين تفقد بوصلتهاوتتمادى في استخدام القوة دون حكمة أو عدالة.
بوست ( الهامبورجر ) أعادني لقراءة فكر الاستاذ هيكل لحظة عالمية مشحونة ومن عبقرية الرجل ان السطور التي سطرها كأنها توصيف لما جرى ويجري من حولنا ونحن نجتهد لفهم بنية القوة في النظام الدولي وربما كان منشور خالد أبو بكر فرصة ثمينة لنعيد اكتشاف فكر هيكل لا كذكرى لماض سياسي او آراء ووجهات نظر نتفق ونختلف معها ولكن كمنهج في التحليل السياسي المنضبط تاريخيا وجغرافيا لفهم حاضرنا واستشراف مستقبلنا.