رغم كل ما كُتب وقيل عن “الشرق الأوسط الجديد” – ذاك المشروع الأمريكي الذي بُني على أنقاض احتلال العراق وأحلام بوش الابن بـ”شرق ديمقراطي حر” على المقاس الغربي فإن سنوات العقدين الماضيين أثبتت أن مخططات الهيمنة لا تمر دومًا كما يشتهي مهندسوها.
في قلب هذا المشهد، كانت إيران. دولة أرهقتها العقوبات، وحاصرتها الدبلوماسية الغربية، وكادت تُستدرج في أكثر من مواجهة مفتوحة، لكنها بقراءة واقعية للمشهد استطاعت إفشال أهم حلقات المشروع الغربي في المنطقة، عبر عدة أدوات أهمها: دعم فصائل المقاومة في لبنان وفلسطين، و الصمود إلى جانب النظام السوري ومنع تقسيم سوريا، و ترسيخ نفوذها في العراق واليمن ولبنان، بشكل خلق توازنًا مقلقًا للغرب ولإسرائيل.
ومع تعثّر كل هذه الرهانات الغربية، برزت فجوة كاشفة داخل الجبهة العربية نفسها، حيث اختارت بعض الدول الخليجية الرهان على التحالف مع واشنطن وتل أبيب كطوق نجاة من “الخطر الإيراني”.
ولم يكن الأمر مجرد تعاون أمني خلف الكواليس، بل خرج إلى العلن في شكل اتفاقات تطبيع شاملة، ولقاءات رسمية، ومشاريع اقتصادية مشتركة. قد تُفهم هذه الخطوات – من وجهة نظر بعض الحكومات – كجزء من الواقعية السياسية، لكن من منظور الشعوب العربية والإسلامية، ما حدث يُنظر إليه باعتباره تخليًا عن القضية الفلسطينية، وتواطؤًا ضمنيًا ضد مقاومة عربية صامدة.
اللافت أن كل هذا تم في وقت لم تتراجع فيه إيران قيد أنملة عن خطابها السياسي المعادي للهيمنة الغربية، ولا عن دعمها الصريح لحركات المقاومة في غزة وبيروت، حتى وهي تواجه حصارًا اقتصاديًا خانقًا وهجمات إلكترونية وعمليات اغتيال منظمة لعلمائها.
ربما لا يمكن القول إن إيران “انتصرت” انتصارًا كاملاً، فهي لا تزال تعاني داخليًا واقتصاديًا، ولا تزال على خط المواجهة المفتوحة مع واشنطن وتل أبيب، لكنها بلا شك أربكت الحسابات، وأفشلت السيناريوهات الكبرى لإعادة تشكيل المنطقة على الطريقة الأمريكية.
والمفارقة أن من فشلوا في رسم هذا الشرق الجديد، وجدوا في بعض حلفائهم من داخل الجسد العربي أدوات طيّعة لاستكمال المخطط دون طلقة واحدة، وهنا مكمن الخطر؛ لا في العدو الظاهر، بل في الحليف الذي استسلم طوعًا وباع أوراق القوة مقابل أوهام الحماية والتحالف.
في النهاية، يبدو أن الشرق الأوسط لن يُرسم من جديد بحدود سايكس بيكو جديدة، بل بخنادق بين من اختاروا طريق المقاومة، ومن ارتموا في أحضان التحالفات المسمومة ؛؛وبين الاثنين، تسطر الشعوب حكمها، ولو تأخر الزمان.