حين تُذكر مفردة “الأمن القومي”، يقفز إلى الأذهان فورًا مشهد الحدود والسلاح، أو ملف المياه والطاقة، أو تحديات الإرهاب والتطرف. ولكن، يغيب عن الأذهان أحيانًا أحد أهم الأعمدة الهادئة لهذا الأمن: الفن.
نعم، الفن :: ذلك الذي يبدو للوهلة الأولى مساحة للتسلية أو ترفًا للنخبة، هو في الحقيقة أداة استراتيجية بالغة التأثير، في صناعة السلام الاجتماعي، وفي تحصين الهوية الوطنية، وفي مواجهة الحروب غير التقليدية التي تستهدف وعي الشعوب ووجدانها.
الفن صمّام السلام الاجتماعي
إن مجتمعًا بلا فن، هو مجتمع بلا مرآة ولا روح. فمن خلال العمل المسرحي، والأغنية الشعبية، والدراما التلفزيونية، والأفلام الوثائقية، وحتى الجداريات والقصائد، تُبث الرسائل الأكثر تأثيرًا في النفوس.
الفن يُعلّمنا كيف نختلف دون أن نتحارب، وكيف نتعاطف مع الآخر، حتى وإن كنا لا نشبهه.
كم من مسرحية عالجت قضية مجتمعية قبل أن تصل إلى لجان البرلمان ؟
وكم من أغنية وطنية أعادت الروح في أوقات الإحباط، وأيقظت الانتماء في لحظات التشتت؟
في زمن تتعدد فيه الولاءات الفرعية على حساب الهوية الجامعة، يصبح الفن أداة لبناء الجسر بين مكوّنات المجتمع الواحد، وبين أجياله المختلفة.
الفن كركيزة للأمن القومي
في معادلة الأمن القومي الحديث، يُعدّ الوعي هو الجبهة الأولى، والفن هو رأس رمحه.
من خلال الفن، تُصاغ الرسائل، وتُبنى الرواية الوطنية، ويُحصّن الجمهور من التشكيك والانجرار خلف الحروب النفسية.
وليس أدل على ذلك من اعتماد خصوم الأوطان على بثّ “أعمال درامية” موازية، أو ترويج “فنانين مزيفين” لتشويه الرموز أو تسفيه الثوابت، بما يؤكد أن ساحة المعركة قد انتقلت من الميدان إلى الشاشة، ومن الرصاص إلى الفكرة.
كما أن الفن يستطيع أن يُقدّم صورة الوطن بعيون أبنائه، لا كما يراها الغرب أو يرسمها أعداء الداخل. يُعيد رواية التاريخ، ويُكرم الشهداء، ويُلهب مشاعر الجيل الجديد بحب الوطن، فيكون بذلك أبلغ من ألف خطاب سياسي.
مسؤولية الدولة والمجتمع
إذا أردنا فنًّا مسؤولًا، يخدم الأمن القومي لا يُهدده، ويُعزز السلام لا يُفتته، فعلينا:
1. تبني رؤية استراتيجية للفن، لا تركه للارتجال أو السوق.
الدعم يجب أن يُوجه للفن الجاد، الذي يُعالج القضايا الحقيقية للمجتمع، لا الأعمال المبتذلة التي تهدم القيم وتُضعف الذوق العام.
2. تحرير المؤسسات الثقافية من البيروقراطية والخوف.
فالفن لا يُثمر في بيئة خائفة أو خانعة، بل يحتاج إلى مساحة حرية مسؤولة، تحكمها الأخلاق، لا الحسابات السياسية الضيقة.
3. إدماج الفنون في التعليم والتربية.
فالطفل الذي يتعلم الموسيقى والرسم والتمثيل، هو مواطن سويّ في المستقبل، يعرف الجمال، ويكره العنف، ويحترم الآخر.
بإيجاز
إنّ الدول التي تحترم نفسها، تبني جيوشًا تُدافع عن الحدود، ومؤسسات تُدير الملفات، ولكنها أيضًا تبني وجدانًا وطنيًا عبر الفن، يمنع الفوضى من الداخل، ويحفظ النسيج من التمزق، ويجعل المواطن يرى وطنه جميلًا، يستحق الدفاع عنه حتى آخر نفس.
الفن ليس كماليات؛ بل هو أمن قومي ناعم؛؛ صاحب كفاح مصر ورفيق نهضتها علي مدار التاريخ ماضيا ً وحاضرا ً ومستقبلا ً .