الذكاء هبةٌ ربانية عظيمة، لكنه حين يتجاوز حدّه الطبيعي يصبح في أحيانٍ كثيرة عبئا ً على صاحبه أكثر مما هو مكسب له. فالذكاء المفرط يمنح صاحبه قدرة فريدة على رؤية ما وراء الظواهر، وعلى تحليل المواقف بسرعة مذهلة، واكتشاف الروابط الخفية بين الأشياء؛ حيث يَرى ما لا يُرى، ويفكر في ما لا يخطر ببال، ويتحرك ذهنه في دوائر أوسع بكثير من المحيطين به، وهذه في ظاهرها نعمة، لكنها في عمقها قد تتحول إلى نقمة حين يفقد الإنسان معها بساطته وقدرته على التعايش مع إيقاع الحياة العادي.
الذكي المفرط يلتقط التفاصيل الدقيقة، ويفهم ما بين السطور، ويستشعر التناقضات قبل أن تظهر، لذلك يعيش في توترٍ دائم بين ما يعرفه وبين ما يراه من جهلٍ أو سطحيةٍ حوله. إن عقله المتوقد الذي يمنحه التميز، هو نفسه الذي يسلبه الطمأنينة.
فالعقل الذي لا يتوقف عن التفكير يشبه محركا ًيعمل ليل نهار بلا راحة حتى يُنهك صاحبه، وربما لهذا يعاني كثير من الأذكياء من القلق، والأرق، والعزلة الفكرية، لأنهم يفتقدون من يشاركهم مستوى الفهم ذاته.
الذكاء المفرط أيضا ًيجعل صاحبه أكثر حساسية ً للظلم ولتناقضات البشر؛ فهو يرى الزيف بوضوح، ويشعر بالكذب حتى قبل أن يُقال، فيفقد الثقة بسهولة، ويتعامل بحذر مفرط. وربما يدفعه ذلك إلى الانسحاب من الناس، أو إلى الصمت الطويل الذي يبدو للآخرين تكبرا ًبينما هو في الحقيقة محاولة للنجاة من الضجيج.
ومع ذلك، يظل الذكاء المفرط نعمة حين يمتزج بالتوازن العاطفي والروحاني؛ فالعقل المُتَّقِد يحتاج إلى قلب ٍ حكيم يسكّنه، وإلا احترق بنوره.
الذكاء الحقيقي ليس في أن تعرف أكثر من غيرك، بل في أن تدرك متى تتوقف، ومتى تترك الحياة تمضي دون تحليلٍ ولا مقاومة.
إن أجمل العقول ليست تلك التي تفهم كل شيء، بل التي تعرف كيف تسكن رغم فهمها العميق لكل شيء، فالذكاء إذا لم يُروَّ بالحب صار جفافا ً، وإذا لم يُهذَّب بالتواضع صار استعلاءً، وإذا لم يُوجَّه بالرحمة صار وبالا ًعلى صاحبه.
فلتكن ذكيا ً بما يكفي لتفهم الحياة، وحكيما ً بما يكفي لتعيشها بسلام.