لم يكن حلم دونالد ترامب بالفوز بجائزة نوبل للسلام محض ترفٍ سياسي، بل كان جزءا ً من مشروعه لاستعادة شرعيةٍ دوليةٍ مفقودة بعد سنوات من الجدل والانقسام. كان يرى في نوبل تتويجاً شخصياً لصفقات “السلام” التي نسجها في الشرق الأوسط، ومحاولة لتسجيل اسمه بين زعماء التاريخ لا في قوائم الجدل؛ لكن الحلم تبخر، وخيبة الأمل تبدو أكبر مما تُقال في البيانات، والسؤال الآن هو كيف سينعكس ذلك على موقفه من قضايا الشرق الأوسط، خصوصاً من اتفاق التهدئة المنتظر توقيعه في القاهرة؟
منذ أسابيع، كانت مؤشرات عدة توحي باستعداد ترامب للمجيئ إلى القاهرة لحضور مراسم التوقيع، رغم أنه لم يكن متحمسا ً تماما ً وقبوله المبدئي كان أقرب إلى الموافقة “على مضض”، ليس فقط لاعتبارات البروتوكول، بل لأن العلاقة بينه وبين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مرت بمنعطفات دقيقة، أبرزها رفض القاهرة ثلاث مرات متتالية لطلب ترامب عقد لقاء ثنائي خلال زيارات سابقة، وهو ما ترك في نفسه أثرا ً مستترا ً لم يُمحَ بعد !.. ولعلّ فكرة أن يأتي إلى مصر اليوم، بعد أن رفضته بالأمس، لم تكن مريحة له سياسيا ًولا نفسيا ً، لولا إغراء الصورة التذكارية التي كان يأمل أن تُصبح جزءاً من ملف ترشيحه لجائزة نوبل.
لكن ضياع الجائزة قد يُعيد خلط الأوراق فالدافع الرمزي الذي كان يمنحه الحافز الأكبر للظهور بمظهر “صانع السلام العالمي” لم يعد قائما ً، وربما تحوّل إلى عبءٍ سياسي، يدفعه للتفكير في إعادة تموضع سريع يحفظ له هيبته ويبرر تراجعه. من هنا يبرز التساؤل: هل سيحضر ترامب إلى القاهرة رغم كل شيئ ؟
أم سيبحث عن مخرجٍ أنيقٍ لتجنّب مشهدٍ قد يُفسَّر باعتباره حضورا ً “من موقع الخاسر” ، لا الفائز؟
الخيارات أمامه متعددة، وأولها أن يحاول تحويل الخسارة إلى فرصة؛ فالرجل يدرك أن انسحابه الكامل سيُفقده القدرة على التأثير في مسار الشرق الأوسط، لذا قد يقرر المجيئ لكن بشروطه الخاصة، ليُظهر أنه جاء “كرجل دولة” لا كطالب جائزة.
وربما يفكر الرئيس السيسي في خطوةٍ دبلوماسيةٍ ذكية تُبقي الباب موارباً دون أن تمنح ترامب ما يفوق حجمه، كأن يكرمه بوسامٍ مصري أو يُظهر تقديرا ًرمزيا ً لدوره في دعم جهود التهدئة، ليس كمكافأة، بل كرسالةٍ بأن مصر تتعامل بندّية واحترام مع كل من يشارك في حفظ الاستقرار الإقليمي. ومع ذلك، يبقى هذا الاحتمال محفوفا ً بالحذر؛ فالسيسي الذي يعلم تقلّب المواقف الأمريكية يدرك أن ترامب بعد ضياع نوبل ليس هو ترامب قبلها، وأن أي مجاملةٍ زائدة قد تُفسَّر ضعفا ً أو تُستغل لاحقا ً كورقة ضغط سياسية.
وقد تلجأ القاهرة إلى تكتيكٍ دبلوماسي محسوب يمنح ترامب حافزا ً للحضور دون التزامٍ علني، كأن تُسرّب عبر قنواتٍ دبلوماسية أو إعلامية أنباءً عن “احتمال تكريم رمزي” ينتظر الرئيس الأمريكي في حال حضوره للقاهرة، بما يجعله يرى في الزيارة فرصةً لاستعادة صورته الدولية لا اختبارا ً لمكانته؛ وهذه الإشارة الناعمة قد تحقق الهدف دون إعلانٍ رسمي، وتحافظ على مرونة الموقف المصري إن تغيّر المشهد لاحقا ً .
ومع ذلك، تبقى فرضية أخرى أكثر تعقيدا ً، وهي احتمال أن يتفق ترامب مع الجانب الإسرائيلي على افتعال أزمة محدودة تعرقل مسار وقف إطلاق النار، وترجيئ التوقيع إلى أجلٍ غير مسمّى ؛.. فبهذا السيناريو، يخرج ترامب من المأزق بمظهر “الصلب الحريص على شروط السلام” لا “الخاسر الذي حضر ليشهد توقيعا ً بلا مقابل”، وتستفيد إسرائيل من إطالة أمد التوتر، لتعيد ترتيب أوراقها في غزة والضفة.
على مدار العقود الماضية، عرفت السياسة العالمية وجوها ًطاردت جائزة نوبل ثم دفعت ثمن إخفاقها مثل باراك أوباما حين نال الجائزة مبكرا ً عام 2009 قبل أن ينجز سلاما ً فعليا ً، فتحولت الجائزة لاحقا ً إلى عبءٍ رمزي يطارده في كل حرب خاضتها واشنطن بعد ذلك؛ أما هنري كيسنجر، ففاز بها رغم استمرار النزاع في فيتنام، فبدا كمن انتصر بالجائزة وخسر المعنى، بينما ظل قادة آخرون — ككلينتون في مسار أوسلو، ونتنياهو في محاولاته المتكررة — يلاحقونها دون جدوى، لتتحول “نوبل” في الوعي السياسي إلى مرآة تكشف نيات الزعماء أكثر مما تُكرّم إنجازاتهم.
ولعلّ ترامب اليوم يقف في السطر نفسه من تلك الحكاية المتكررة فخيبة نوبل ليست فشلا ً في الفوز، بل سقوط وهمٍ بأن العالم يشتري السلام كما تُشترى الصفقات.
أما مصر، التي تدرك أبعاد اللعبة، فلن تكون طرفا ً ساذجا ً في مشهدٍ مصطنع، فهي تعلم أن أي تصعيد غير محسوب سيعني مزيدا ً من العبء الأمني والإنساني على حدودها الجنوبية، لذلك قد تختار الصمت المعبِّر، وتترك الأحداث تكشف نوايا الأطراف بنفسها، لتثبت مجددا ً أنها مركز الثقل الحقيقي في ميزان الشرق الأوسط.
إنّ ما ضاع من ترامب ليس جائزة فحسب، بل “الرمزية التي كان يسعى إليها” ؛ فالرجل الذي حاول أن يجعل من الشرق الأوسط منصة لتتويجه العالمي، اكتشف أن السلام لا يُصنع بالصفقات ولا يُمنح بالجوائز، بل يُكتب في ذاكرة الشعوب لا في لجان نوبل. وربما كانت خيبته درسا ً متأخرا ً في أن التاريخ لا يمنح وسامه إلا لمن يصنع سلاما ً حقيقيا ً، لا لمن يبحث عن مجدٍ شخصيٍ عابرٍ على أنقاض معاناة الآخرين.