حين أطلق أحمد زكي صرخته الشهيرة في فيلم «ضد الحكومة» قائلاً الجملة الشهيرة : “ يا عزيزي كلنا فاسدون ولا أستثني أحدا ً ”
لم يكن يتحدث عن الفساد الإداري أو المالي فحسب، بل عن فساد الضمير الجمعي الذي يصيب الأمم عندما تفقد إحساسها بالمسؤولية.
كانت تلك الجملة اعترافا ً لا من متهم ٍ بل من شاهد ٍ على عصر ٍ كامل، فقد تحوّل الفساد من حالة شاذة تُستنكر، إلى أسلوب حياة ٍ مقبول يتسلّل إلى التفاصيل الصغيرة في اليوميات ؛؛ حين نبرّر الغش بأنه “شُطارة”، أو نُصالح أنفسنا على الواسطة بحجة “الناس كلها بتعمل كده”.
ومع مرور السنوات، اتسعت الدائرة حتى صار الصالح مستغربا ً ، والطالح والمفسد هو القاعدة.
لم يعد الفساد فعلاً استثنائيا ً، بل ثقافة جماعية تُغلّفها الذرائع والمصالح، وتختبئ خلف الشعارات الوطنية أو الدينية أو الاجتماعية، الكل يبرّر والكل يتأقلم، حتى صار الاعتراف بالخطأ عملا ً بطوليا ً.
إن أخطر ما في الفساد ليس وجوده، بل تطبيع الناس معه حتى يفقدوا قدرتهم على الغضب، وحين يُصبح الخطأ مألوفا ً؛ يختفي الإحساس بالذنب، وتُدفن الضمائر في ضجيج التبرير، وهنا فقط تتحقق مقولة بل نبوءة أحمد زكي في فيلمه (كلنا فاسدون؛ ولا أستثني أحدا ً).
لكنها لم تكن جملة استسلام، بل جرس إنذار يدعونا أن نبدأ الإصلاح من داخل أنفسنا، لأن الوطن لا يُطهَّر بالقوانين وحدها، بل بضميرٍ حيّ يرفض المشاركة في الجريمة ولو بالصمت.
فلماذا لم ننتبه لتحذير أحمد زكي؟
ربما لأننا أُعجبنا بالصرخة ولم نفهم معناها، صفّقنا للمشهد وبكينا عليه، ثم خرجنا من السينما وعدنا لنمارس الفساد ذاته الذي أدانه الفيلم؛ واعتبرناه فيلما ً لا مرآة ً وموعظة ً؛ بدلا ً من جعله محاكمة ًلأنفسنا
تراكم الصمت، وتكرّس التبرير، حتى صار الفساد مؤسَّسا ً، والضمير مستأنسا ً، والناس يختزلون الوطن في مصالحهم الشخصية.
واليوم ؛؛؛ بعد أن بلغنا مرحلة «نواب التبرعات»، حيث الفساد يُمارَس علناً تحت شعار “الخير” و“العمل العام”، لم يعد السؤال عن المخطئ، بل عن كيف نُعيد تربية الضمير الجمعي الذي إستمرأ الخطأ حتى صار يصفّق له؟
الحل ليس في مزيد ٍمن القوانين، فالقانون بلا ضمير مجرد حبر على ورق، بل في إحياء الحس الأخلاقي، وعودة التربية على مفهوم الأمانة والمسؤولية، وأن نفهم أن الوطن لا يُبنى بمن يرفع شعاره، بل بمن يصونه في غيابه.
حين نُعيد الاعتبار للصدق والضمير، فقط عندها يمكن أن نردّ على أحمد زكي بمقولة أخري :
“ يا عزيزي؛ كنا فاسدين .. ثم استيقظنا وسنكون صالحين ”