في عالم الاقتصاد، اعتدنا أن تسير الأمور وفق منطق محدد؛ فحين تنخفض أسعار الفائدة، يتراجع الإقبال على الادخار البنكي، فتتجه الأموال نحو الاستثمار والإنتاج، وينعكس ذلك على الأسعار بالانخفاض أو على الأقل بالاستقرار. لكن في مصر، يبدو أن السوق العقاري اختار أن يكسر هذه القاعدة، ليظل صاعدا ً رغم كل مؤشرات التيسير النقدي، وكأن لهذا القطاع منطقه الخاص الذي لا يخضع لقوانين الورق.
فمنذ أن بدأ البنك المركزي سياسة خفض الفائدة تدريجياً، توقّع كثيرون أن تشهد أسعار العقارات موجة هبوط أو تباطؤاً واضحا ً، لكن الواقع جاء معاكسا ً والأسعار لم تنخفض، بل واصلت ارتفاعها بنسب متفاوتة، لتُثير تساؤلات حول طبيعة هذا السوق الذي يرفض الانصياع لأي قاعدة تقليدية. فما الذي يحدث إذن؟
أول ما يجب فهمه أن العقار في مصر ليس سلعة استثمارية فحسب، بل هو “مخزن قيمة” ومصدر أمان نفسي قبل أن يكون مشروعا ً ربحيا ً. فالمواطن المصري الذي فقد ثقته في العملة، يلجأ إلى الطوب والإسمنت باعتبارهما أكثر استقراراً من الأرقام البنكية التي تتآكل قيمتها مع كل انخفاض جديد للجنيه؛ لهذا السبب، حين تنخفض الفائدة، لا يهرب الناس من الادخار فحسب، بل يندفعون إلى شراء العقارات كملاذ آمن، مما يخلق طلبًا مستمرا ًيحافظ على الأسعار وربما يدفعها للصعود.
ثم إن ارتفاع أسعار مواد البناء من الحديد إلى الأسمنت إلى النقل والطاقة جعل من المستحيل تقريباً أن تنخفض الأسعار النهائية للوحدات. فحتى إن أراد المطور أن يخفف العبء، فإن تكلفة التنفيذ لا تسمح بخفض الاسعار .
السوق هنا لا يتأثر بالفائدة فقط، بل بسلسلة طويلة من العوامل الإنتاجية التي تضغط في الاتجاه المعاكس.
ولا يمكن إغفال أن كثيرا ً من المستثمرين والمطورين يسعّرون وحداتهم بالدولار ضمنيا ً، لا بالجنيه، فهم ينظرون إلى السوق من زاوية الحفاظ على قيمة الأصول في مواجهة أي تقلب محتمل في سعر الصرف.
لذلك، كلما شاع الحديث عن خفض جديد للجنيه، نجد الأسعار تسبق الأحداث وترتفع تحوّطاً ، حتى قبل أن تتغير التكلفة الحقيقية.
من ناحية أخرى، أسهم الطلب من المصريين العاملين بالخارج، والمستثمرين العرب، في دعم الأسعار داخل الشريحة العليا من السوق، خاصة في المدن الجديدة والساحل والعاصمة الإدارية. هؤلاء يشترون بالدولار أو بما يعادله، فلا يتأثرون بتقلبات الفائدة المحلية، مما يجعل السوق منقسمة بين مستهلكين محدودي الدخل يعانون من الغلاء، ومشترين يملكون عملة صعبة يرفعون سقف الأسعار دون قصد.
لكن المفارقة الأكبر أن خفض الفائدة نفسه شجّع البعض على شراء العقارات بالتقسيط، بعدما أصبحت أقساط التمويل العقاري أو التسهيلات البنكية أكثر مرونة؛ فتحرّكت السوق من جديد، لا لأن الأسعار انخفضت، بل لأن أدوات الدفع أصبحت أيسر.
وهكذا، تحوّل القرار الذي كان يفترض أن يخفّض الأسعار إلى عامل دعم ٍ لها من زاوية أخرى.
إنها حالة فريدة تعكس طبيعة السوق المصري الذي يتفاعل بالعاطفة بقدر ما يتفاعل بالأرقام، فالعقار بالنسبة للمصري ليس مجرد استثمار، بل “أمان” ضد المجهول. ولذلك ستظل معادلة الفائدة والعقار في مصر تختلف عن أي نموذج نظري جاهز، لأن ما يحرك السوق هنا ليس الحسابات الاقتصادية وحدها، بل مزيج من الذاكرة والخوف والثقة.
وفي النهاية، يمكن القول إن خفض الفائدة لم يُنتج انخفاضاً في الأسعار، بل أعاد تشكيل حركة السوق من الداخل، فقد تحركت الأموال من الحسابات البنكية إلى الطوب، وظلت الأسعار ثابتة كجدار يواجه تقلبات العملة والسياسة معاً. وربما يظل هذا الجدار صامدا ً، ما دام المصري يعتقد أن ما يملكه فوق الأرض أغلى مما يودعه تحتها.
التنويه:
الفائدة تنخفض… والأسعار ترتفع!
لغز السوق العقاري المصري
هل يمكن أن تهبط الفائدة البنكية دون أن يهبط معها سعر العقار؟
ولماذا يواصل السوق العقاري في مصر الصعود رغم تراجع الفائدة وتباطؤ القدرة الشرائية؟
لغزٌ اقتصادي يكشف أن ما يحرك السوق ليس الأرقام وحدها، بل العقلية المصرية ذاتها.