لم يكن القذافي يوماً إلهاً ولا دكتاتوراً كما روج الغرب الإمبريالي طيلة أربعة عقود قاد خلالها ليبيا نحو الوحدة والأمان، وخلع عنها رداء العصبية والجهوية. فقد جاء إلى الحكم عبر ثورة شعبية أطاحت بالرجعية وبقايا الاستعمار الذي مزّق أوصال البلاد وجعلها أقاليم متناحرة، وحوّل شعبها إلى عبيد للطليان.
عاشت ليبيا في ظل ثورة الفاتح من سبتمبر 1969 أزهى عصور الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، حيث أصبح الوطن ملكاً للجميع، والسلطة والثروة والحكم بيد الشعب لا الحكومة. وهذا ما ميّز حكم العقيد معمر القذافي عن سائر القادة العرب الذين تشبثوا بالسلطة واحتكروا الثروة، فأفقروا البلاد والعباد.
منذ اعتلائه هرم السلطة، سلك معمر القذافي نهج الوحدة والحرية، وعاش مناضلاً من أجلها، وقاد الأجيال نحو التحرر ومقاومة الاستعمار والعمالة. لم يكن يوماً حاكماً لليبيا بالمعنى التقليدي، بل كان زعيماً ثورياً مكافحاً في سبيل حرية الأمة العربية والقارة الأفريقية بأكملها، في مواجهة المستعمر الذي نهب خيراتها واستغل فقرها، فتحكم في قرارها السيادي ومصيرها السياسي.
واليوم، وبعد مضي أربعة عشر عاماً على استشهاده على يد الغرب الذي حرّض وحشد العالم للتخلص من الرجل، يُطرح السؤال: هل رست سفينة ليبيا على شاطئ الأمان؟ وهل بلغت طريق السلامة فعاش شعبها في رغد العيش الكريم، أم أن الرياح ما زالت تعصف بها من كل صوب، تنهش جسدها النزاعات وتتنازعها الولاءات وتُستباح أرضها وثرواتها بأيدي من باعوا الوطن بثمن بخس، فغدت ليبيا التي كانت يوماً منارة الأحرار، ساحة تتقاذفها الأطماع وتتناحر فوقها الرايات؟.
لقد غاب القائد الجسور، لكن فكره ما زال حاضراً في وجدان كل حرّ آمن بالكرامة والسيادة ورفض التبعية والانكسار. رحل الجسد وبقي المشروع، مشروع الحرية والوحدة والتحرر من قيود الهيمنة الغربية التي ما برحت تسعى لطمس هوية الأمة ونهب خيراتها باسم الديمقراطية الزائفة وحقوق الإنسان المعلّبة على مقاس مصالحها.
إن ما تشهده ليبيا اليوم من فوضى وانقسام لم يكن قدراً محتوماً، بل نتيجة مؤامرة دولية حيكت خيوطها بعناية لإسقاط الدولة القوية التي بناها القذافي، دولة الكرامة والسيادة التي لم تركع يوماً للغرب ولم تنحنِ لإملاءاته.
لكنّ الشعوب لا تموت، والحق لا يُدفن، والتاريخ لا ينسى. سيأتي يوم تنهض فيه ليبيا من تحت الركام، تستعيد مجدها وتوحد صفها وتطوي صفحة التبعية والاحتراب، مستلهمة من مسيرة قائدها الراحل دروس العزة والصمود.
فالقذافي لم يكن نهاية التاريخ، بل كان بدايته الحقيقية نحو فجرٍ عربي وأفريقي جديد، تشرق شمسه من طرابلس إلى أديس أبابا، ومن سرت إلى القدس، يوم تدرك الشعوب أن الحرية لا تُمنح بل تُنتزع، وأن الكرامة لا تُشترى بل تُصان بالدم والإيمان والوفاء.