الحب عند دوستويفسكي ليس نزوةً تُشعل القلب، ولا عاطفةً رومانسية يكتبها الشعراء، بل هو رحلة داخل النفس، امتحانٌ صامتٌ لقدرتنا على الفهم والغفران والتوازن .. ففي عالمه لا يُمكن لإنسانٍ أن يحب بحق ما لم يتصالح أولًا مع ذاته، لأن من يحمل داخله صراعًا لم يُحل، سيحمل صراعه إلى من يحب، وسيجعل من الحب ساحة قتال بدلًا من أن يكون واحة سلام.
دوستوفيسكي الذي عاش أقصى أشكال التناقض – بين الإيمان والشك، بين الرحمة والعقاب، بين الضعف والقوة – كان يؤمن أن الإنسان لا يكتمل إلا حين يواجه نفسه بصدق .. ومن لا يعرف نفسه، لا يمكن أن يعرف معنى الحب ؛ فالحب في فلسفته ليس حاجة، بل قدرة على العطاء دون قيدٍ أو غرض، قدرة على أن ترى الآخر في ضعفه، دون أن تحاكمه أو تستغله.
في روايته الأخوة كارامازوف، يقول:
«أحبوا الإنسان في خطيئته، لأنكم إن لم تفعلوا، فلن تستطيعوا أن تحبوه أبدًا.»
بهذه العبارة يلخّص دوستويفسكي جوهر التناغم النفسي الداخلي :
أن تقبل ضعفك وضعف الآخرين دون أن تفقد إيمانك بالخير الكامن في الإنسان.
فالحب الحقيقي عنده لا يُطفئ الألم، بل يُنيره.
إنه لا يُنقذنا من أنفسنا، بل يجعلنا نرى أنفسنا بوضوح.
في كل شخصياته — من راسكولنيكوف في الجريمة والعقاب إلى أليوشا في كارامازوف – يبحث عن المعنى ذاته: كيف يحب الإنسان رغم ما فيه من ظلمة؟
وكانت إجابته دائما ً أن الحب لا ينشأ في القلب إلا بعد أن يهدأ الصراع داخله .. فمن لم يبلغ سلامه الداخلي، سيفشل في أن يمنح سلامًا لغيره.
دوستوفيسكي لم يكن واعظا ً، بل شاهدا ً على تناقضات الإنسان.
أدرك أن الحب لا يُقاس بما نأخذه، بل بما نقدر أن نصير عليه بسببه .. فالحب عنده قوة تطهير تُنقّي النفس من الأنانية،
ويتحوّل إلى مرآة يرى فيها الإنسان صورته الحقيقية:
وجهه حين يحبّ بصدق، وصراعه حين يخاف من الفقد،
واطمئنانه حين يدرك أن الحب ليس تملكًا، بل مشاركة في وعي الحياة.
الحب في فلسفته ليس وعدا ً بالسعادة، بل التزامٌ بالصدق،
ولذلك كان يقول إن من يحب حقا ً، لا يسعى إلى امتلاك من يحب، بل إلى إنقاذه من قسوته ومن خوفه .. فهو يرى في الحب معركةً داخلية لا ينتصر فيها إلا من يواجه نفسه، ويغفر دون أن ينسى، ويعطي دون أن يطلب، ويصبر دون أن يتراجع عن نقائه.
ومن هنا يصبح الحب في فكر دوستويفسكي مرآة للنفس؛
من ينظر فيها يرى روحه لا ملامحه، ويكتشف أن أعظم ما في الحب أنه يكشفنا لا أنه يُخفي ضعفنا .. فالحب لا يجمّلنا، بل يعرّينا أمام حقيقتنا، ومن يملك شجاعة النظر إلى نفسه في تلك المرآة هو وحده الذي يعرف معنى الحب الحقيقي.









