تحل اليوم ذكرى ميلاد الفنانة الخالدة صباح، الشحرورة التي لم تكن مجرد فنانة عابرة في تاريخنا العربي، بل كانت ظاهرة متكاملة من الجمال، والأناقة، والفن الأصيل، والأهم من ذلك: الإنسانية الطاغية التي جعلت علاقتنا بها تتجاوز حدود الإعجاب العادي إلى الاقتناع العميق بمبادئها ونورها.
في هذا اليوم من كل عام، تعود الذكريات لتنسج خيطاً من الحنين إلى صوتها وضحكتها، وإلى تلك المكالمات الهاتفية المستمرة التي كنتُ أحرص عليها، والتي كانت بمثابة نافذة أطلّ منها على قلبها المحب لجمهورها ووطنها الثاني مصر. كانت “الصبوحة” تسأل دائماً بصدق الفنانة العاشقة: “إنت عايش في أحسن بلد في الدنيا”، وتستفسر عن أحوال المصريين وعن تفاعلهم مع فنها قائلةً: “بتحطولي صور وأغاني على الفيس بوك ولا لا؟”. جملتها التي لا تُنسى كانت: “أنا عايشة بحبكم وإنتوا أكسجين الحياة بالنسبالي”. أي تواضع وأي محبة هذه؟!

لقد كانت صباح ملكة بكل شيئ. مملكتها لم تُبنَ على الشهرة وحدها، بل على مبادئ راسخة من:
الكرم والتواضع: تعاملها مع الجميع بقلب مفتوح ودون تكلف.
الأخلاق وحب الناس وحب الحياة: كانت رسولاً للبهجة والتفاؤل.
الشياكة والأناقة: أيقونة الجمال والموضة التي لم تذبُل بمرور السنوات.
الفن الأصيل: إرث فني ضخم يضم 83 فيلماً وأكثر من 3000 أغنية.
لقد كان لي شرف معاصرة صباح والالتقاء بها، وإجراء عشرات اللقاءات الصحفية وعدة اتصالات من مصر إلى لبنان. تلك اللقاءات لم تكن واجباً مهنياً، بل كانت جرعات من الطاقة الإيجابية. علاقتي بها لم تكن مجرد علاقة إعجاب عادية بين معجب وفنانة، بل كانت علاقة اقتناع بمبادئها في الحياة، فضلاً عن الانغرام بكل تفاصيل هذه الأسطورة. ولعلّ خير دليل على هذا الانغرام هو أنني تعلمت وأتقنت الحديث باللهجة اللبنانية بسبب الصبوحة وحبي لها، وكأنها جسر ثقافي من الحب يربط بين ضفتي المتوسط.
لقد صدق الرئيس الراحل أنور السادات عندما قال لها المقولة الخالدة: “إنتي أجمل سفيرة للبنان في مصر”. صباح لم تكن سفيرة للفن اللبناني فقط، بل كانت رسول الحياة والحب الذي يعشق مصر وأهلها بصدق، ويبادلها المصريون والمحبون في كل مكان ذات الشغف والتقدير.

أتذكر جيداً ذلك اليوم في صيف 2011، وبمجرد أن التقيتها للمرة الأولى وأنا شاب نحيف البنية، قالت لي منذ أول سلام بيننا جملة لا تزال ترن في أذني: “إنت خريج إعلام بكره القنوات يخطفوك خطف”. كانت صباح مجاملة لأقصى حد، ولسانها لا يعرف إلا الخير والجمال، كانت “جَبّارة خواطر” بامتياز.
خلال الساعة التي قضيتها في رحاب الصبوحة وأنا ضيفها بفندق ماريوت بالزمالك، استقبلنا عشرات المعجبين من كل مكان. كانت دائماً ترحب بالجميع دون كلل أو ملل وتطلب بشكل سريع مشروبات للحضور، وكأنها في بيتها الكبير.
تحدثنا خلال الجلسة عن مصر وسوريا ولبنان. عندما كنت أسألها: “أيهما تحبين أكثر مصر أم لبنان؟ خصوصاً أن لها تصريحات كثيرة تؤكد فيها أنها صناعة مصرية “مية في المية””، كانت تقاطعني وتجيب بحب الأم الفاضل: “كأن لدي ولدين تؤام، أنا أمهما، لا يجوز أن أحب أحدهما أكثر من الآخر”.
تحدثنا عن كل شيئ وعن فناني مصر، فذكرت حبها لشادية ونجاة وسعاد حسني، ورفضت فكرة انتحار سعاد وأكدت أنها كانت شخصية محبة للحياة. وتحدثت عن أم كلثوم، وقالت بفخر: “من شدة إعجاب أم كلثوم بصوتي أرادت تمصيره وطلبت مني أن أغني فقط باللهجة المصرية”.
انتهى الوقت سريعاً بكل أسف بسبب ارتباطي بموعد سفر في اليوم التالي، فاضطررت لأن أستأذن في ذلك اليوم، لكني انصرفت من المكان دون قلبي الذي بقى مع الشحرورة حتى الآن.
صباح… اشتقنالك! ستبقى ذكراك العطرة حاضرة في كل أغنية وفي كل مشهد، تذكرينا بأن الحياة تستحق أن تُعاش بجمال وكرم وتواضع، تماماً كما عشتِها أنتِ.
صباح… يا رسول الحياة والحب، أنتِ باقية في وجداننا وفي كل كلمة خير قيلت في حقك. اشتقنا لملكة لا تعرف سوى المحبة والعطاء.











