في زمنٍ تتشابك فيه الولاءات وتتعقد فيه المصالح، لم تعد مسألة ازدواج الجنسية مجرد شأنٍ إداري أو إجراءٍ قانوني بسيط، بل أصبحت قضية أمن قومي تمس جوهر الانتماء ذاته؛ فالمواطنة ليست بطاقة تعريف، بل عقد شرف وولاء، ومن يطلب الانتماء لغير وطنه يجب أن يتحمل مسؤولية خياره بوضوح ودون التباس. ولذلك، فإن الوقت قد حان لتعيد الحكومة المصرية النظر في هذه المسألة، وتسنّ تشريعا ً واضحا ً يُلزم كل من يكتسب جنسية أخرى بالتخلي عن الجنسية المصرية، احتراما ً لمبدأ الصفاء الوطني واستقلال القرار. في مصر؛ يعيش كثير من مزدوجي الجنسية في منطقة رمادية من الحقوق والواجبات.
يحملون جوازين، ويتنقلون بين دولتين، ويتمتعون بمزايا مزدوجة، بينما تظل الدولة عاجزة عن تحديد مركزهم القانوني والوطني في أوقات الأزمات، ومن المؤسف أن أغلب من يسعون لاكتساب جنسية أخرى لا يفعلون ذلك حبا ً في ثقافة جديدة أو ولاء ً لبلد ثانٍ ، بل بحثا ً عن مصلحة مادية أو تسهيل إجراءات السفر أو تحويل الأموال، أو حتى التهرب من التزاماتهم تجاه وطنهم الأول.
ازدواج الجنسية في جوهره يمثل ازدواجا ً في الولاء، وهو أمر لا يمكن التسامح معه في الدول ذات الوعي الوطني العالي؛ فكيف نطالب شابا ً مصريا ً بخدمة وطنه بصدق وتفانٍ ، بينما يرى غيره يتمتع بامتيازات دولتين ويختار الانحياز حيث المصلحة ؟ وكيف نضمن ولاء مسؤول أو مستثمر يحمل جنسية أجنبية لقرارات قد تتعارض مع مصالح بلده الثاني ؟ الدولة المصرية بحاجة إلى حسم هذا الملف، لا من باب التضييق، بل من باب حماية الهوية الوطنية من التمييع. فالولاء لا يقبل القسمة، والانتماء لا يُجزأ..
وإذا كانت بعض الدول الغربية تتساهل في ازدواج الجنسية لأنها لا تخشى على هويتها، فإن دولا ً أخرى — كالصين واليابان — تحظرها بشكل قاطع حفاظا ً على نقاء الولاء والالتزام المطلق بسيادة الدولة. والأمر لا يقتصر على الدول الآسيوية أو المتقدمة فحسب، بل هناك دول عربية مثل الكويت تتخذ موقفا ً حازما ً من هذه المسألة، إذ تمنع ازدواج الجنسية نهائيا ً حفاظا ً على التجانس الاجتماعي والسيادة القانونية، وتعتبر الجنسية الكويتية شرفا ً لا يُشاركها فيه غيرها. فلماذا لا تحذو مصر حذو هذه الدول، وهي أولى بالدفاع عن انتمائها العريق وهويتها التاريخية؟ القضية ليست قانونية فقط، بل فكرية وأخلاقية في المقام الأول. فالمواطن الذي يطلب الانتماء لبلد آخر دون أن يتخلى عن بلده الأصلي يرسل رسالة مزدوجة للجيل القادم: أن الانتماء يمكن التلاعب به، وأن الوطن يمكن الاحتفاظ به في الجيب كخيار احتياطي.
وهذا ما يجب أن يتوقف فورا ً إن أردنا بناء وعي وطني نقيّ، خالٍ من حسابات المصالح الشخصية. قد يقول البعض إن في ذلك تضييقا ً على حرية الأفراد، لكن الحقيقة أن الحرية لا تُمارس على حساب الوطن، بل في ظله. ومن أراد حرية الانتماء لدولة أخرى، فله الحق الكامل، لكن عليه أيضا ً أن يتحمل نتيجة قراره، بالتخلي عن الجنسية المصرية احتراما ً لكرامتها ولقيمتها، لا ازدراء ً بها.
في النهاية، لا يمكن أن نحارب ظاهرة ازدواج الولاء بالخطابات العاطفية، بل بالقوانين الحاسمة التي تضع الأمور في نصابها، فمصر لا تحتاج إلى مواطنين “منقسمين”، بل إلى من ينتمون لها وحدها، قلبا ً وقالبا ً ، دون أن تتجاذبهم المصالح الخارجية أو يغريهم البريق الأجنبي. الوطنية ليست شعارا ً يُرفع، بل التزام يُحترم؛ ومن أراد أن يكون مصريا ً فليكن كامل الانتماء، ومن أراد أن يكون شيئا ً آخر فليذهب، لكن دون أن يحتفظ بمفتاح بيتنا في جيبه الآخر.










