تخوض مصر منذ عقود معركة ممتدة ومنظمة ضد تهريب الآثار، لا تهدف فقط لاستعادة القطع المنهوبة، بل لحماية الذاكرة الوطنية لأقدم حضارات الإنسان. وقد شهد هذا الملف تطوراً كبيراً في السنوات الأخيرة، سواء من حيث حجم القطع المستردة أو آليات التعاون الدولي والقانوني لضمان عودة الممتلكات الثقافية.
نجاحات حديثة وآليات استرداد معقدة
أحدث النجاحات المصرية تمثلت في تسلّم وزارة السياحة والآثار قطعتين أثريتين من مملكة بلجيكا الأسبوع الماضي، بعد ثبوت خروجهما بطريقة غير شرعية. وتعود قصة استرداد هذه القطع إلى عام 2016 عندما تحفظت السلطات البلجيكية على أربع قطع أثرية كانت معروضة في صالة عرض دون مستندات قانونية.
-
مراحل الاسترداد البلجيكي: نجحت مصر عام 2022 في استعادة قطعتين من هذه المجموعة (تمثالين خشبيين). واستمر المسار الدبلوماسي والقانوني لعدة سنوات حتى تكللت الجهود بالنجاح في استعادة القطعتين المتبقيتين مؤخراً، ما يمثل انتصاراً جديداً على الاتجار غير المشروع.
توحيد الجهود لمواجهة النهب المنظم
فرض واقع النهب المنظم للآثار على مدى القرن الماضي، سواء خلال الاحتلال أو عبر شبكات التهريب الحديثة، على الدولة المصرية تبني سياسة موحدة تعتمد على التنسيق بين وزارات الآثار، والخارجية، والعدل، بالإضافة إلى التعاون مع النيابات العامة والمتاحف في الدول الأجنبية.
الركائز الاستراتيجية لعملية الاسترداد:
-
التوثيق وإثبات الملكية (الركيزة الحيوية): تبدأ رحلة الاسترداد بإثبات ملكية القطعة لمصر. لذلك، أولت الجهات المعنية اهتماماً خاصاً لتوثيق القطع المسروقة عبر سجلات رقمية وصور أرشيفية. وقد أنشأت وزارة السياحة والآثار قاعدة بيانات موسعة تشمل القطع المسروقة منذ عام 2011 وما قبله، لتسريع الإجراءات القانونية.
-
المسار القضائي والمفاوضات: بعد التوثيق، تبدأ مرحلة المفاوضات أو المسار القضائي. في الدول التي تحمي تشريعاتها التراث، يكفي تقديم الأدلة لإيقاف البيع. أما في الحالات المعقدة، يتم اللجوء إلى الدعاوى القضائية، كما حدث في قضية مخزن مانهاتن بالولايات المتحدة، التي أدت إلى استعادة مئات القطع.
-
التعاون الدبلوماسي والملاحقة الدولية: تلعب السفارات المصرية بالخارج دوراً محورياً في مراقبة المزادات الدولية ورصد القطع المشكوك في مصدرها، لبدء إجراءات الإيقاف. كما تتعاون السفارات مع وزارات الثقافة والعدل الأجنبية لتدريب كوادرها على التعرف على القطع المصرية الأصيلة وتمييزها عن المقلدة.
إنجازات ضخمة تعكس الإصرار
شهدت السنوات الماضية نجاحات تاريخية تعكس إصرار الدولة على ملاحقة الآثار المهربة:
-
إيطاليا (2022): تم استرداد ما يزيد عن 6 آلاف قطعة في واحدة من أكبر عمليات الاسترداد الجماعي في تاريخ مصر الحديث، بعد تنسيق دقيق بين النيابة العامة المصرية والسلطات الإيطالية.
-
الولايات المتحدة: استعادت مصر قطعاً شهيرة، أبرزها غطاء التابوت الذهبي للكاهن نجم عنخ من متحف المتروبوليتان بنيويورك، بعد إثبات تزوير أوراق خروجه.
-
عام 2023: شهد استرداد عشرات القطع من الولايات المتحدة وفرنسا وإنجلترا وألمانيا، بعد إدانات متعددة لتجار آثار ومزادات عالمية.
حماية محلية وتشديد للعقوبات
تدرك الدولة أن حماية التراث تبدأ من الداخل؛ لذلك توسعت وزارة الآثار في برامج التوعية لتنمية محيط المناطق الأثرية. كما تم تشديد العقوبات المتعلقة بالتنقيب غير المشروع والاتجار في الآثار، مما انعكس على تراجع محاولات التهريب مقارنة بفترة ما بعد 2011. وتعمل الدولة على تعزيز الرقابة بالتكنولوجيا، من خلال تركيب كاميرات المراقبة وتدريب فرق متخصصة لمتابعة المواقع المعرضة للخطر.
وتُعد هذه النجاحات رسالة نصية واضحة مفادها أن كل قطعة خرجت بطريقة غير مشروعة ستظل موضع مطالبة، وأن استعادتها هي خطوة لتصحيح سردية التاريخ وإعادة ما سُرق من الذاكرة الجماعية إلى مكانه الطبيعي.










