يبدو أن قطاع التعليم في مصر ينطبق عليه المثل الشعبي القائل “الحيطة المايلة”، هذا المثل الذي يُطلق على كل ما يعاني الضعف، وما يزيد الطين بلة، أن هذا القطاع وما يشهده من الوهن والهزلية، مازال حقل تجارب لكل من هب ودب، من وزير لوزير، هذا يلغي وهذا يُقر، هذا يحذف وهذا يضيف، والضحية ليس الطالب وحده، وإنما مستقبل أمة بكاملها.
التعليم الذي يعاني ضعف الميزانية، وضعف الفكر، وحتى ضعف الرؤى والاستراتيجيات، الجميع يتلاعب به تحت دعوى التطوير وصناعة مستقبل أفضل وبناء الأمم، وغيرها من الشعارات الرنانة، لأن هناك مؤشرات بأن نحو أكثر من 40% من المتعلمين لا يجيدون القراءة والكتابة بلغة سليمة، وهي كارثة بالتأكيد، كون اللغة جزء لا يتجزأ من الهوية الوطنية.
الكوارث التي تضرب التعليم هذه المرة تأتي بوتيرة سريعة جدا، منذ إعلان التشكيل الوزاري الجديد والأزمات تلاحق هذا القطاع دون هوادة، ليزيد منها حديث الإعلامي تامر أمين ودعوته الغريبة بإلغاء المواد الأدبية كالتاريخ والجغرافيا والفلسفة من الثانوية العامة، متسائلا: إيه لازمة واستفادة الطلاب من دراسة هذه المواد.. كفاية تاريخ وفلسفة،خلي الطالب يشوف مستقبله.
وأزمتنا في مصر حقيقة، أنه لا أحد يقول رأيه بعقلانية، الغالبية تتجه نحو الهجوم الشديد والتجاوز لمن يخالفه الرأي، وهو ما فعله الأستاذ تامر، بأن طريقته وأسلوبه ودعوته جاءت جازمة وحاسمة بأنه صاحب الصواب الوحيد.
عموما، بعيدا عن هذا التحليل السيكولوجي، دعنا نتحدث عن خطورة هذه الدعوة، ودعني أخبرك يا أستاذ تامر ثمة أمور قد تغيب عنك بعض الشيء أو قد تكون أغفلتها.
إن دراسة التاريخ ليست فقط مهمة، إنما هي ضرورة، فالتاريخ وما به من سرديات وغاص في أسرارها أضاف أعمارًا إلى عمره، فمن لا تاريخ له لا حاضر له، فعلم التاريخ كباقي العلوم يستند على حقائق علميّة ثابتة من خلال الأدلّة المرويّة عن المكان والإنسان، لذا يعطي علم التاريخ تصوّرًا دقيقًا وواضحًا عن العالم القديم، والتجارب التي مرَّ بها الإنسان، مما يساعد على تجنّب ما وقع بهِ الأقدمون من أخطاء جرّت عليهم الويلات والدمار.
إن علم التاريخ الذي يبقي الفرد متصلا بثقافته وهويته وأجداده، يُنصف أيضا الأمم، ويحفظ التراث، فكثير من التراث الذي تتميّز به الدول هوَ بسبب حفظ التاريخ، الذي يحفظ الحقوق لأصحابها، في زمان يجور بالزيت والتزوير كما يحدث في بلاد للجوار كون الجغرافيا جزء منه، وهذا الأمر بمثابة أمن قومي لا تفريط فيه بالتأكيد.
أما الفلسفة والمنطق يا سيد تامر، فهي بمثابة فرع من فروع علم الأخلاق، كما أنها تكشف عن الحقائق وتتوصل إليها دائما، وتعتبر وسيلة وأداة ذات أهمية بالغة في الممارسة التحليلية، وتساهم في طرح فرضيات وحلول بطريقة صحيحة، فيقول “أبو حيان التوحيدي”: “الفلسفة هي كمال الإنسان”، كونها تساهم في تطوير الذات الإنسانية وتنميتها على خلق حلول للمشكلات، وساعد الأفراد على استنباط وجهات نظر خاصة بهم حول الحياة، وتفتح سبل الفهم للإنسان حول العالم المحيط به وحتى الطبيعة الإنسانية.
يا أستاذ تامر، عبر التاريخ لم تكن العلوم الأدبية عائقا بقدر ما كانت أساسية في جميع مناحي الحياة، وأحيانا داعمة للوصول إلى العلوم العلمية والمنطقية والتطبيقية، فكان كبار العلماء يدرسون الفلسفة والمنطق مع الرياضيات والبيولوجيا، فعمر الخيام كان عالما في الفلك والرياضيات وفيلسوفا وأديبا وشاعرا فارسيا مسلما، وابن خلدون من علماء العرب والإسلام برع في علم الاجتماع والفلسفة والاقتصاد والتخطيط العمراني، وابن سينا العالم والطبيب الذي اشتهر بالفلسفة والطب وجابر ابن حيان وابن رشد.. وغيرهم.
هذا كله عرفناه من التاريخ، وحفظناه، بدلا من أن ينتهز المنتهزون الفرصة وينسبون هذا لهم، ويهددون الثوابت ويضعون الهوية ويستولون على الثورات والخيرات، كما يفعلون في بعض الأوطان الآن بأكاذيب وادعاءات مضللة.
في ختام الرسالة للأستاذ تامر أمين: التعليم مش حيطة مايلة، و أؤكد أن التطور والاتجاه نحو العلوم الحديثة، يستوجب الرجوع للتاريخ الحقيقي وفهمه ودراسته ودراسة المنطق والعلوم الأدبية والاجتماعية، حفاظا على الهوية الوطنية والثقافية وفهم أصل العلوم وأصل هذا التطور، ارحموا التعليم وصونوا التاريخ، واستقيموا يرحمنا ويرحمكم الله.