إطلاق الحكومة المصرية لـ “السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية” يمثل محاولة جديدة لتجميع السياسات الاقتصادية في إطار متكامل، بحيث يكون هناك “قصة واحدة” توضح للمستثمرين والمجتمع الدولي رؤية مصر للنمو والتشغيل خلال السنوات المقبلة. هذه الخطوة تأتي في وقت حساس، حيث تواجه مصر تحديات تمويلية وضغوط اجتماعية مرتبطة بالتضخم والبطالة، وفي نفس الوقت تبحث عن تعزيز ثقة المستثمرين والشركاء الدوليين. حيث حققت مصر معدل نمو للناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بلغ 4.5% في العام المالي 2024/2025، متجاوزًا التوقعات الرسمية عند 4.2%. لكن ما زال النمو أقل من المتوسطات التاريخية (6-7% في منتصف الألفينات)، ولكنه يظل أعلى من متوسط الشرق الأوسط (حوالي 3.4%).
ويتمثل التحدي الأكبر في أن النمو ما زال مدفوعًا بقطاعات غير كثيفة التشغيل مثل الغاز الطبيعي والعقارات، بينما القطاعات الأكثر قدرة على خلق فرص العمل (الصناعة التحويلية، الزراعة، السياحة) لم تستعد كامل قوتها بعد.
أما من ناحية التشغيل وسوق العمل يظل معدل البطالة الرسمي في مصر يدور حول 7.4%، لكن بين الشباب (15-29 سنة) يصل إلى أكثر من 20%، وبين النساء إلى حوالي 17%. وتركز السردية الوطنية تركز على التشغيل كهدف محوري، وهو أمر ضروري جدًا نظرًا لأن مصر تدخل سنويًا بسوق العمل ما يقارب 800 ألف شاب وفتاة. وبدون نمو يتجاوز 6% في المتوسط مع سياسات التشغيل النشطة ستظل البطالة مرتفعة حتى مع تحقيق معدلات نمو جيدة. أما من جانب الاستثمارات الأجنبية المباشرة فقد بلغت حوالي 9 مليارات دولار في النصف الأول من 2025، مع مساهمة كبيرة من دول الخليج، لكن نسبة مساهمة القطاع الخاص المحلي في الاستثمار الكلي ما زالت ضعيفة (أقل من 30%) مقارنة بما يزيد عن 60% في الاقتصادات الصاعدة. لذا فالسردية الوطنية مطالبة بإرسال إشارات قوية للقطاع الخاص المحلي من خلال تسهيل التراخيص، تقليل دور الدولة في بعض الأنشطة التجارية، وتوفير تمويل متوسط وطويل الأجل.
تأتي تلك السردية في ظل تحديات هيكلية تتمثل في أن عجز الموازنة ما زال يتجاوز 6% من الناتج المحلي، والدين العام في حدود 93% من الناتج المحلي. كما أن التضخم ما زال في خانة العشرات (حوالي 18% في يوليو 2025)، مما يقلل من القوة الشرائية ويزيد الضغط على الأسر. وهذه الأرقام تعكس أن أي “سردية” يجب أن تتعامل بجدية مع إصلاح المالية العامة والسيطرة على الأسعار لضمان مصداقية السياسات.
إن إطلاق السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية خطوة إيجابية من حيث توحيد الرسالة وإرسال إشارات ثقة للمستثمرين. لكن نجاحها يتوقف على ربطها ببرنامج إصلاح هيكلي واضح بزمن محدد ووضع مؤشرات قياس مثل (عدد الوظائف المستحدثة، نسبة مساهمة القطاع الخاص، معدل نمو الصادرات). كذلك ضمان عدالة توزيع ثمار النمو عبر التشغيل الحقيقي وليس فقط عبر التحويلات النقدية. فالسردية الوطنية يمكن أن تكون نقطة تحول لو تحولت من خطاب سياسي إلى برنامج عملي بالأرقام والجداول الزمنية، وإلا ستظل مجرد عنوان جميل بلا أثر ملموس على الاقتصاد والمجتمع.
مقال للدكتور / يوسف إبراهيم
مدرس الاقتصاد بالمعهد العالي للإدارة بالمحلة الكبرى