يبدو أننا وصلنا إلى مرحلة “الصحوة المفاجئة غير البريئة ولا سليمة النية”، إذ اكتشف البعض فجأة أنهم يعيشون في ظل هيمنة ما بات يُعرف بـ “المال السياسي”.
هذا الاكتشاف لم يأتِ نتيجة بحث أو إدراك مبكر، بل جاء مع أول ضربة استبعاد أو إحساس بعدم الحصول على “الحصة أو المقعد الموعود به” في سباق الانتخابات..
هذا التناقض الصارخ يدعونا للتفكير بصوت عالٍ في جوهر الأزمة.
والتساؤل المركزي هنا هو: هل كان موقف السادة الأفاضل ليتغير لو كانت أسماءهم قد أُدرجت ضمن القائمة الوطنية، أو تم اختيارهم ضمن التنسيق أو الائتلافات الحزبية في النظام الفردي بما هو متعارف عليه؟
المؤكد، ووفقًا لمنطق التجربة، أن صوت الاحتجاج على “المال السياسي” و”عدم النزاهة” كان سيخفت تمامًا. فبمجرد الدخول في دائرة “التنسيق”، تتحول الانتخابات في نظرهم إلى عملية “حرة، نزيهة، وشريفة”. هذا يكشف أن الاعتراض ليس نابعًا من مبدأ عام أو حرص على العملية الديمقراطية، بل هو اعتراض شخصي يخص “المكان المفقود”، ويفضح ازدواجية المعايير.
النموذج الأوضح لهذا التناقض هو ما نراه من بعض النواب أو القيادات الحزبية (كحالة النائب ووالده التي وردت)، الذين يعلنون صراحة عبر منصات التواصل أن استبعادهم من القائمة الوطنية هو دليل على أن “المال السياسي هو الذي يحكم”.
هذا الإفصاح العلني، حتى في لحظة الغضب والاعتراض، يؤكد أنهم لم يتمكنوا من إخفاء حقيقة أن المال والصفقات كانت جزءًا أصيلًا من العملية التي كانوا يسعون للدخول إليها، ولكنهم كانوا أضعف ممن يخوضون السباق أمامهم، وليس لأنهم أصحاب مبادئ وقيم..
هذه الحالة انتقلت بالعدوى إلى العديد من الأحزاب اليوم، والتي تعاني من حالة مزمنة من الضعف، سواء على مستوى القيادة أو المؤسسات الداخلية. هذه الأحزاب، بدلًا من أن تكون قاطرة للتنمية السياسية، تتحول إلى ساحات حرب داخلية على أشدها. السبب الرئيسي لهذا الصراع ليس التنافس الفكري أو البرامجي، بل هو التناحر للحصول على “نصيب من تلك الحصة” المحددة في القوائم الانتخابية أو التنسيقات.
الأخطر هو ظهور “المتحكمين” في المشهد، الذين يحولون قضية القوائم والتنسيق إلى “سبوبة” ومصدر استثمار شخصي. هؤلاء يسعّرون ويشيلون ويحطون الأسماء بناءً على اعتبارات النفوذ الشخصي والمصالح والاستفادة من السبوبة ذاتها، مما يحرف البوصلة الحزبية والوطنية.
ومن وجهة نظري المتواضعة، فإن نظام القائمة كنظام انتخابي رغم هدفها المعلن لتعميق الحياة الحزبية، بات سببًا رئيسيًا في تفاقم المشكلات. ففي ظل آليات الاختيار الحالية التي يشوبها الغموض، يمكن أن تكون القائمة عاملًا لـ غياب الكفاءات والخبرات الحقيقية، لصالح هيمنة الشللية وأصحاب النفوذ المالي والاجتماعي. عندما تتحول الكفاءة إلى عامل ثانوي أمام الولاء أو القدرة على دفع “الثمن”، فإننا نحرم العملية التشريعية والرقابية من أهم أدواتها.
إن احترامنا الوحيد في هذا المشهد يذهب فقط لمن يأخذ قرارًا شجاعًا ويقرر خوض الانتخابات مستقلًا بعيدًا عن أي اعتراضات أو تنسيقات. هذا الشخص، حتى لو كان يشعر بالإحباط أو يرى أنه يستحق أكثر، يثبت أنه واثق في نفسه وفي علاقته بالشارع، ويفضل خوض المعركة بأدواته الخاصة بعيدًا عن وحل الصفقات.
ما نحتاجه بشدة اليوم هو إعادة النظر في أنظمة الانتخابات من خلال آلية تتسم بـ الضبط والربط والمحاسبة. يجب أن تتوقف عملية استغلال ملف الترشح كـ “سبوبة” شخصية؛ لأن هذا التلاعب لا يضر فقط بالنزاهة الانتخابية، بل يسبب أذى بالغًا للبلد كلها، فهو يعرقل مسيرة التنمية والرؤية الطموحة التي تسعى إليها القيادة السياسية، ويُشكل خيانة لـ طموحات وآمال الشعب التي هي أمانة في أعناق الجميع.
لابد من آليات شفافة تضمن تقديم الأصلح والأكفأ للبرلمان، حتى يكون ممثلًا حقيقيًا للشعب وليس مجرد انعكاس لصفقات المال والنفوذ، وحتى تكون مصلحة الوطن والمواطن هو الهدف الأسمى والأعلى.