يمثل قرار مؤسسات التصنيف الائتماني الدولية، سواء “ستاندرد آند بورز” أو “فيتش”، برفع وتحسين درجة تقييم الاقتصاد المصري، لحظة فارقة في مسيرة الإصلاح الاقتصادي التي بدأتها الدولة المصرية.
هذا القرار، الذي يأتي كثمرة مباشرة لبرنامج إصلاحي شامل ومدروس، ليس مجرد تقدير فني لمدى صحة المؤشرات المالية، بل هو في جوهره شهادة ثقة دولية في قدرة الاقتصاد المصري على تحقيق الاستقرار والنمو المستدام، ورسالة قوية للمجتمع الاستثماري العالمي بأن مصر اليوم وجهة جديرة بالثقة والاستثمار.
إن رفع التصنيف الائتماني ينعكس بشكل إيجابي ومباشر على بيئة الاستثمار بعدة جوانب حيوية، فهو يساهم أولًا في خفض تكلفة الاقتراض على الدولة والقطاع الخاص، ما يوفر سيولة أكبر للمشروعات التنموية والاستثمارية، ويشجع الشركات على التوسع والابتكار، ثانيًا، يعزز من جاذبية مصر كوجهة للاستثمار الأجنبي المباشر، حيث يُنظر إلى رفع التصنيف على أنه مؤشر لخفض المخاطر المالية والاقتصادية، وبالتالي يجذب رؤوس الأموال الباحثة عن عوائد مجزية في بيئة مستقرة.
ثالثًا، يوسع قاعدة المستثمرين المحتملين، فبعض المؤسسات والصناديق الاستثمارية العالمية لديها لوائح داخلية تمنعها من الاستثمار في الدول ذات التصنيفات الائتمانية المنخفضة، ورفع هذا التصنيف يفتح أبواب هذه المؤسسات أمام السوق المصري.
استغلال هذه اللحظة الإيجابية يتطلب رؤية استراتيجية متكاملة تتجاوز مجرد الاحتفاء بالقرار، حيث يجب على الحكومة تسريع وتيرة الإصلاحات الهيكلية، فلا ينبغي أن يكون رفع التصنيف نهاية المطاف، بل حافزًا لمواصلة الإصلاحات الهيكلية، خاصة تلك المتعلقة بتبسيط الإجراءات، ورقمنة الخدمات الحكومية، وتقليل البيروقراطية، وإصلاح سوق العمل لزيادة مرونته وكفاءته، كما يتوجب تعزيز الشفافية والحوكمة من خلال استكمال جهود مكافحة الفساد، وتطبيق معايير الشفافية الكاملة في طرح المشروعات والعقود الحكومية، ما يعزز من ثقة المستثمرين ويؤكد التزام الدولة بالعدالة والنزاهة. ولا يقل أهمية عن ذلك، الاستمرار في تطوير البنية التحتية واللوجستية الحديثة، بما في ذلك شبكات الطرق والموانئ والمطارات والمناطق الصناعية المتكاملة، التي تمثل عنصرًا جاذبًا للاستثمارات الإنتاجية، مع توجيه الاستثمارات نحو القطاعات التي تمتلك مصر فيها ميزة تنافسية، مثل الصناعات التحويلية، والتكنولوجيا، والطاقة المتجددة، والزراعة الحديثة، مع التركيز على تعميق المكون المحلي وزيادة القدرة التصديرية.
وأخيرًا، يتوجب تنمية رأس المال البشري من خلال الاستثمار في التعليم والتدريب المهني والفني، وتأهيل الشباب بالمهارات المطلوبة في سوق العمل المتغير، بما يضمن توفر الكفاءات التي تحتاجها المشروعات الجديدة، ويزيد من جاذبية مصر كمركز إقليمي للإنتاج والخدمات.
ولضمان تحويل هذه الشهادة الدولية إلى محرك دائم للنمو الاقتصادي، ندعو إلى تعزيز قنوات الحوار الفعال والمستمر بين الحكومة والقطاع الخاص، والاستماع إلى تحدياته، والعمل على حلها بمرونة وسرعة، لخلق شراكة حقيقية تسهم في تحقيق الأهداف المشتركة. كما يتطلب الأمر إطلاق حملات تسويقية مكثفة وموجهة في الأسواق العالمية الرئيسية، لتسليط الضوء على الفرص الاستثمارية الواعدة في مصر، والترويج للتغيرات الإيجابية في بيئة الأعمال، ولا بديل عن الاستمرار في الحفاظ على استقرار السياسات الاقتصادية الكلية، بما في ذلك الانضباط المالي والسياسة النقدية المرنة، لتجنب التقلبات المفاجئة التي قد تؤثر على ثقة المستثمرين، بالإضافة إلى تبني استراتيجيات فعالة لتشجيع الابتكار وريادة الأعمال، وتوفير بيئة حاضنة للشركات الناشئة والمبتكرين، وتقديم الدعم المالي والفني لهم، باعتبارهم محركات أساسية للنمو الاقتصادي وخلق فرص العمل المستقبلية.
إن رفع التصنيف الائتماني ليس نهاية المطاف، بل هو بداية لمرحلة جديدة تتطلب عملًا دؤوبًا ورؤية استشرافية. إنه اعتراف دولي بجهد سنوات من الإصلاح، لكنه يحمل في طياته مسؤولية استثمار هذه الثقة لتحقيق قفزة نوعية في الاقتصاد المصري، بما ينعكس إيجابًا على رفاهية المواطن وتطلعاته نحو مستقبل أفضل.