الجهل نعيم في نظر البعض، يوفر راحة بال بعيدًا عن تعقيدات الحياة والمسؤوليات، بينما المعرفة يُنظر إليها كجحيم، يُثقل كاهل الإنسان بالحقيقة المرّة، والشعور بالمسؤولية، وإدراك محدودية الوجود. لكن الهروب إلى الجهل ليس خلاصًا، بل يكمن التحدي في إيجاد توازن يحمي المرء من عذاب الوعي دون أن يسقط في فخ الجهل المطلق.
قال تعالى: “هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟” (الزمر: 9). نحن نؤمن بالعلم ونرى في العلماء نورًا، لكن اليوم نطرح سؤالًا آخر: هل الوعي دائمًا نعيم أم أنه قد يكون جحيمًا؟ وهل الجهل دائمًا ظلام أم أنه قد يكون نعيمًا؟ إنها فلسفة تعيش في تضاد دائم.
فنعيم الجهل تجد فيه:
- الراحة من الأسئلة: يريح العقل من حمل عبء الأسئلة الكبرى التي لا إجابة لها، فيمنح صاحبه سلامًا وهميًا.
- تبسيط الواقع: يرى الجاهل العالم بلونين، أبيض وأسود، بعيدًا عن رمادية الحقيقة التي تُعذّب الواعي.
- خفة المسؤولية: الهروب من المعرفة يعني الهروب من ثقل المسؤولية تجاه النفس والعالم، وهي مسئولية قد تكون عبئًا ثقيلًا.
- تشبيه بالطفولة: يذكّرنا بجمال وبراءة الطفولة، حيث نبتسم أكثر من أن نفكر.
أما جحيم المعرفة، فهو لعنة لمن لا يعرف كيف يتعامل معه:
- يسرق منك الطمأنينة: لأنه يعرّيك أمام نفسك وذاتك.
- ترى الحقيقة عارية: المعرفة تجعلك ترى الحقائق مجردة من أي تزيين أو أقنعة، مما يجعل الحياة تبدو أكثر قسوة.
- الشعور بالهشاشة: يجعلك تدرك هشاشة الوجود، وأن الحياة ليست عادلة، وأن الموت يقين لا محالة.
- مواجهة الذات: تجعلك تواجه نفسك بضعفك وتناقضاتك وإمكانياتك وأفكارك التي لا تنقطع.
- صعوبة الاختيار: يجعلك مسؤولًا عن كل شيء؛ عن أخطائك وقراراتك ومعنى حياتك، الذي يجب عليك أن تصنعه لنفسك وسط فوضى الحياة.
نعيم الجهل وجحيم المعرفة ليسا مجرد مفاهيم متناقضة، بل هما حالتان وجوديتان يعيش الإنسان بينهما، ممزقًا بين راحة الوهم وعذاب الحقيقة.
بين النعيم والجحيم
أيهما أفضل؟ أن تحيا في جهل مطمئن، أم في معرفة مؤلمة؟ ربما الجواب لا يكون باختيار أحدهما، بل بإيجاد توازن بينهما: أن تكون واعيًا بما يكفي لترى، ولكن جاهلًا بما يكفي لتحيا. أن تدرك الحقيقة، لكن دون أن تسمح لها بسلبك لذة العيش. كما قال دوستويفسكي: “أحيانًا، يكون من الأفضل للإنسان ألا يعرف الحقيقة، لأن المعرفة يمكن أن تكون عبئًا لا يُحتمل.”
لذلك، قد يكون الوعي جحيمًا، لكن الهروب إلى الجهل ليس خلاصًا. بل التحدي الحقيقي هو أن تجد طريقة لتعيش بوعي دون أن تحترق بناره.











