لم يعد تردّي الذوق السمعي في مصر مجرّد اختلاف أجيال أو صراع بين القديم والحديث، بل تحوّل إلى أزمة ثقافية شاملة دفعت المجتمع إلى حافة فقدان الحس الفني الذي طالما ميّز الشخصية المصرية. فما نشهده اليوم من انتشار ما يُسمّى بالمهرجانات، وصعود رموز هابطة لا تمتّ للفن المصري بصلة، ليس وليد صدفة، بل نتاج سنوات من الفوضى التي سمحت لدخلاء على الموسيقى والغناء بأن يفرضوا أنفسهم على الوعي العام، حتى أصبحت الأذن المصرية التي تربّت على عبدالوهاب وأم كلثوم والسنباطي وبليغ — تستقبل ضجيجا ً لا موسيقى فيه، وتكرارا ً بلا معنى، وصخباً بلا روح.
إن الظاهرة ليست مجرد نوع موسيقي جديد، بل هي تلوّث سمعي وبصري أصاب الذوق العام إصابة مباشرة. ومع مرور الوقت، صار هذا التلوث جزءا ً من الحياة اليومية، وتحوّل إلى حالة من الانحدار لا يمكن قبول استمرارها، لأنها ببساطة تؤثر في وعي الأجيال الجديدة، وتشوه صورة الفن المصري التي كانت دائماً قوة ناعمة تتجاوز الحدود.
وفي مثل هذه اللحظة، لا يكفي أن نلوم الجمهور أو ننتقد الظاهرة من بعيد؛ فالفن، كالتعليم والصحة، من مساحات الأمن القومي الثقافي التي لا يجوز تركها للصدفة أو السوق وحده، ومن هنا تبرز مسؤولية الدولة وتحديدا ً وزارة الثقافة في إعادة بناء الذوق العام عبر مؤسساتها العريقة، وفي مقدمتها دور الأوبرا المصرية: القاهرة، الإسكندرية، دمنهور، وأوبرا العاصمة الإدارية الجديدة.
تلك الدور لا يجب أن تبقى حكرا ً على النخبة أو مناسبات محدودة. بل يمكن أن تصبح بوابة الإنقاذ لو وضعت وزارة الثقافة خطة واضحة تقوم على فتح أبواب الأوبرا للجمهور بأسعار منخفضة، وحفلات منتظمة، تقدم محتوى راقيا ً ومفهوما ً، يعيد للأذن المصرية توازنها الطبيعي ويُذكّرها بما يعنيه “فن حقيقي”. التخفيض ليس دعما ً لفئة بعينها، بل استثمار في وعي أمة .. وإحياءٌ لقيمة الفن بوصفه أحد أعمدة الشخصية المصرية.
لكن الخطوة الأجرأ وربما الأكثر قدرة على إحداث تغيير حقيقي هي تعريب الأعمال الأوبرالية العالمية وتقديمها للجمهور بنفس ألحانها الأصلية ولكن بلغة يستطيع فهمها وتذوقها.
تخيّل جمهوراً بسيطا ً يسمع “كارمينا بورانا” أو “لا ترافياتا” أو “فاوست” بالعربية، دون أن يفقد العمل شيئا ً من جماله الموسيقي .. وهذا وحده كفيل بإحداث (صدمة ذوقية إيجابية) تعيد تشكيل الوعي الفني وتفتح أفقا ً جديداً أمام الناس، خصوصا ً الأجيال الصغيرة التي لم تُتح لها فرصة التعرف على الفن الراقي.
إن مشروعا ً كهذا يمكن أن يشكّل ثورة ثقافية سلمية، لا تعتمد على المنع أو المصادرة، بل على تقديم بديل راقٍ وجذاب، يعالج التلوث السمعي بأسلوب ناعم وعميق في الوقت ذاته. فالفن الحقيقي لا يُفرض بالقوة، بل يُقدَّم بإتقان حتى يتذوقه الناس من جديد.
إنقاذ الذوق العام ليس رفاهية، بل ضرورة لحماية الهوية المصرية من الانجراف وراء موجة من الابتذال التي لن تنتج إلا أجيالا ً مشوشة السمع والرؤية مما يؤثر علي سلوكياتها الأخلاقية والمجتمعية بشكل عام، وعلى الدولة أن تدرك أن المعركة ليست ضد أشخاص أو أنواع موسيقية، بل من أجل روح هذا البلد، ومن أجل أن تعود مصر التي علّمت الدنيا معنى الموسيقى واللحن والكلمة.








