لم يعد بيع الضمير سلوكا ً شاذاً يثير الدهشة، بل صار خيارا ً مهنيا ً مُعلنا ً لدى فئة اختارت أن تعيش على حساب نفسها، وأن تستبدل الشرف بالمنصب، والحق بالراتب، والكرامة باستمرار الظهور.
ولم يعد هذا السقوط حكراً على الإعلاميين وحدهم؛ بل تمدّد ليشمل بعض العاملين بالفن، والصحافة، بل وبعض المسئولين في مواقعهم، ممن ارتضوا أن يكونوا أدوات ناعمة تُصفّق وتُهلّل للسلطة – دون أن يُطلب منها ذلك – لا عن اقتناع، بل طمعا ً في البقاء داخل الدائرة الآمنة.
نحن لا نتحدث عن اختلاف رؤى، ولا عن اجتهادات مهنية، ولا عن تقدير خاطئ للمشهد، بل عن اختيار واعٍ ؛ اختيار أن تُباع الكلمة، ويُؤجَّر الصوت، وتُستبدل الرسالة بالعقد، والصدق بالسلامة الوظيفية.
هؤلاء لم يُكرهوا، ولم يُهدَّدوا، ولم يُساقوا قسرًا ؛؛؛ هم ذهبوا بأقدامهم، ووقّعوا بأيديهم، وصفّقوا لأنفسهم بعد كل تنازل.
الخطورة ليست في الصمت، فالصمت أحيانا ً أهون، بل في المشاركة الفعّالة في تزييف الوعي، في تلميع الخطأ، وتبرير الفشل، وتشويه من يرفض الانحناء .. في تحويل الخيانة إلى “واقعية”، والتخاذل إلى “حكمة”، وبيع النفس إلى “فهم لطبيعة المرحلة”.
هؤلاء لا يدافعون عن دولة، ولا عن وطن، ولا عن مجتمع؛ هم يدافعون عن مواقعهم، عن مقاعدهم، عن عقودهم، وعن الضوء الذي يخشون انطفاءه.
وحين يتحدثون عن “المصلحة العامة”، فإنهم يقصدون مصلحتهم الخاصة، وحين يرفعون شعار “الاستقرار”، فإنهم يعنون استقرارهم الشخصي، لا استقرار الأوطان.
الأكثر فداحة أن بعضهم يتخفّى خلف ألقاب محترمة :: إعلامي، فنان، صحفي، مسئول؛ لكن اللقب لا يصنع قيمة، والمنصب لا يمنح شرفا ً، والوظيفة لا تغفر السقوط.
من باع ضميره مرة، لن يتردد في بيعه كل مرة، فقط يغيّر السعر، ويبدّل اللغة، ويرتدي قناعاً أنعم.
أما أولئك الذين اختاروا الطريق الأصعب ؛؛؛ طريق الخسارة المادية، والتهميش، وربما التشويه، مقابل الاحتفاظ بكرامتهم، فهم الخاسرون في حسابات السوق، لكنهم الرابحون في ميزان النفس والتاريخ.
وهنا فقط يظهر الفارق بين من يعيش واقفا ً ولو تألم، ومن يعيش راكعا ً ولو طال بقاؤه.
إن التاريخ لا يحفظ الأصوات العالية، بل المواقف؛ ولا يتذكّر من صعدوا سريعا ً، بل من ثبتوا حين كان الثمن باهظا ً.
أما الذين باعوا كل شيء ليبقوا، فسيبقون ؛؛؛ نعم، لكن بلا أثر، وبلا احترام، وبلا قيمة تُذكر حين تُطفأ الكاميرات، ويُسدل الستار.
الرسائل لا تُشترى، والكرامة لا تُؤجَّر، ومن يُفرِّط في ضميره بحجة الوظيفة، خسر نفسه قبل أن يخسر أي شيء آخر.











